[أدب الرسول مع ربه]
جعل النبي نقش خاتمه كلمة محمد أسفل وكلمة رسول في الوسط، وكلمة الله التي هي لفظ الجلالة في الأعلى، فأصبح يقرأ من الأدنى: محمد رسول الله، فحتى في نقش خاتمه تأدب عليه الصلاة والسلام مع ربه جل وعلا، ولا يوجد أحد تأدب مع ربه تبارك وتعالى كما كان نبينا عليه الصلاة والسلام متأدباً مع ربه، وهذا من أسباب كثيرة أفاءها الله عليه جعلته أعظم النبيين وأكمل الخلق صلوات الله وسلامه عليه.
ولما عرج به إلى سدرة المنتهى لم يلتفت يميناً ولا شمالاً ولم ينظر في أي شيء إلا وفق ما يريه الله، فما أراه الله رآه ولما لم يره الله لم تتحرك منه جارحة واحدة من غير أن يؤذن له، ولذلك زكى الله بصره في القرآن فقال الله في سورة النجم: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:١٧] أي: لم يتجاوز حدوده.
وكان عليه الصلاة والسلام في كل حاله وآنه متأدباً مع ربه جل وعلا، وأنت إذا تريد الرفعة فالرفعة لها أسباب من أعظمها: الأدب مع الله جل وعلا، وما أورث أنبياء الله ورسله الناس شيئاً أعظم من أدبهم مع الله.
قال الله عن خليله إبراهيم وهو يعرف ربه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:٧٥ - ٨٠]، فلما ذكر المرض نسبه إلى نفسه قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:٨٠] ولم يقل: وإذا أمرضني تأدباً مع ربه تبارك وتعالى، ثم قال: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:٨١] وكل ذلك من كمال أدبهم مع ربهم جل وعلا.
ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يخطب في صلاة الجمعة فدخل رجل يشتكي جدب الديار وقلة الأمطار وقال: يا رسول الله! استسق الله لنا، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا) فتكونت سحابة بأمر الله وأمطر الناس أسبوعاً، ثم في يوم الجمعة المقبلة دخل رجل هو أو غيره من نفس الباب فقال: يا رسول الله! وشكا كثرة السيول وأنها قطعت السبل، وفرقت الناس، وأضرت بالطرق، وقال: فادع الله أن يمسكها عنا، فلكمال أدبه قال في المرة الأولى: (اللهم أغثنا).
وفي المرة الثانية لم يقل صلى الله عليه وسلم لربه: أمسك عنا رحمتك؛ لأنه يعلم أنها رحمة، بل قال: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر وجعل يشير بيديه، قال أنس: فو الله ما أشار إلى ناحية إلا اتجه السحاب إليها) صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا الأدب يغفل عنه كثير من الناس، وهو التأدب مع الله، وكما حظي به النبيون حظي به الأتقياء عبر التاريخ كله، قال الله عن الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:١٠] فلما ذكروا الرشد نسبوه إلى الله: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:١٠]، ولما ذكروا الشر نسبوه إلى ما لم يسم فاعله كما يقول النحويون، قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:١٠] ولم ينسبوه إلى الله، مع أن الله خالق الخير وخالق الشر.
وكذلك الخضر عليه السلام لما ذكر السفينة وعيبها قال كما أخبر الله عنه: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:٧٩] أسند العيب إلى نفسه، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:٧٩ - ٨١].
فلما ذكر الزكاة والرحمة نسبها إلى الرب، قال: فأراد ربك، ولم يقل: فأردت، ولما ذكر العيب نسبه إلى نفسه: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:٧٩]، وهذا كله مندرج ضمن أدب رسولنا صلى الله عليه وسلم مع ربه، وهو أعظم ما ينقل عنه ويتأسى به صلوات الله وسلامه عليه.