[الزهد في الدنيا الفانية]
مما يتعلق بذكر أفراسه ودوابه عليه الصلاة السلام أنه عليه الصلاة والسلام بشر من الناس، يعيش كما يعيش الناس، يركب كما يركبون، ويمشي كما يمشون، ويفرح كما يفرحون.
فلما سبق فرسه فرح، ولما رأى فرساً أعجبه اشتراه، وقل ما نقل عنه البيع، أما الشراء فهو كثير، فكان يشتري ما يعجبه.
وكان يأخذ ويعطي، ويفاوض ويساوم، وكان سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى.
فهذا كله يدل على أنه بشر، وقد كان القرشيون يتعجبون ويقولون: كيف يكون هذا نبياً؟ {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان:٧]، فأخبره الله جل وعلا، في آيات عديدة أن الدنيا ليست مكافئة لأحد، ولو كانت مكافئة في ذاتها لمنعها الله جل وعلا أهل الكفر، وقد عاش نبيه صلى الله عليه وسلم بشراً كما يعيش الناس، ونعم بعض أهل الكفر، وبعضهم لم ينعم، تجري على الجميع أحكام الله جل وعلا القدرية، ولا علاقة لها بالإيمان، ولا بغيره.
لكن الآخرة هي دار الجزاء، فالله يقول في الزخرف: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٣٣ - ٣٥].
فجعل الله جل وعلا الآخرة هي دار الجزاء، ولما كان يحمل اللبِن ويحمل أصحابه اللبِن، كان عمار يحمل لبنتين لبنتين، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحمل لبنتين لبنتين، فقال: (ويح ابن سمية! تقتله الفئة الباغية، ثم قال: اهتدوا بهدي عمار)، ولما أراد أن يبث فيهم العلاقة الأخروية قال عليه الصلاة السلام يدعو: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة).
فالمؤمن وطالب العلم في المقام الأول لا يجعل من العلم حظاً لكسب دنيوي، وإنما يجعل العلم الذي علم به سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وفقهه وما إلى ذلك طريقاً إلى الآخرة، وكل ما كان للإنسان حظ من الدنيا بعلمه، قل حظه في الآخرة، وقل قبول علمه عند الناس في الغالب.
العلامة الألباني رحمه الله تعالى وغفر له لما بشر بأنه فاز بجائزة الملك فيصل العالمية، حاول الصحفيون أن يجعلوا من فوزه بها مادة ثرية في الصحافة، فاتصل به أحد الصحفيين يهنئه ويسأله عن مشاعره، فقال الشيخ رحمه الله: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٣٥]، ثم أقفل الهاتف، وأنهى المكالمة، فالعالم الرباني بحق هو من ينشد ما عند الله، وأجر الآخرة، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه العلماء وطلبة العلم في المقام الأول.
فبادره وخذ بالجد فيه فإن آتاكه الله انتفعتا فإن أوتيت فيه طويل باع وقال الناس إنك قد رؤستا فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخ علمت فهل عملتا وإنما العلم العمل، فالله جل وعلا يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:٢٨].