هذه الغزوات كل منها كان يحمل حدثاً بعينه ينبئ عن عظيم قدره وعظيم جهاده وما الذي يقتدى به صلى الله عليه وسلم.
فمثلاً: في يوم بدر قال عليه الصلاة والسلام: (امضوا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين)، وكان يقصد بإحدى الطائفتين إما العير التي كانت مع أبي سفيان، وإما النصر على قريش إذا حاربها، قال الله:{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}[الأنفال:٧]، فقد كان مطمع المسلمين في العير، ومع ذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قام ليلة بدر في العريش يدعو ويرفع يديه ويذكر الله ويثني عليه ويلح عليه في الدعاء حتى أشفق عليه أبو بكر مع علمه صلى الله عليه وسلم أنه سينتصر، فإنه قال لأصحابه وهو الصادق المصدوق:(إن الله وعدني إحدى الطائفتين) وقلنا: إن إحدى الطائفتين إما العير وإما النصر، والعير فلتت ومضت، خرج بها أبو سفيان ونجت، فأصبح لا محالة أنه سينتصر، ومع أنه يعلم يقيناً أنه سينتصر إلا أنه وقف صلى الله عليه وسلم يدعو، فلماذا وقف يدعو؟! هذا أعظم ما دلت عليه غزوة بدر من فوائد، فقد وقف يدعو حتى يحقق كمال التوحيد لربه جل وعلا، ويظهر من نفسه كمال العبودية لربه جل وعلا، فأظهر صلى الله عليه وسلم في يوم بدر كمال العبودية لله والتضرع وسؤال الله، وهو يعلم عليه الصلاة والسلام يقيناً أنه منتصر؛ لأنه قال لأصحابه قبل أن يصل إلى العريش:(امضوا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين).
فهو متحقق من وعد الله له لكنه فعلها ليظهر عبوديته لربه جل وعلا، وهذا أحد أعظم أسباب علو شأنه على جميع الخلق صلوات الله وسلامه عليه.
وفي يوم أحد شج رأسه وكسرت رباعيته فقال:(كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وهو يدعوهم إلى الله؟!) فأنزل الله جل وعلا عليه قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}[آل عمران:١٢٨]، وكان الأمر كما أراد الله، فبعض من شهد أحداً مع أهل الإشراك أسلم بعد ذلك وكان مدافعاً عن الدين، فالقلوب بيد الله والإنسان لا ييأس من أحد وهو يدعوه، بل يدعو من حوله إلى دين الرب تبارك وتعالى.
ومن الفوائد: تواضعه صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة، فقد دخلها مطأطئاً رأسه وعلى رأسه المغفر تواضعاً لربه جل وعلا، والعظماء إذا سادوا وحققوا مرادهم يظهرون لله جل وعلا تواضعهم حتى يعلم من حولهم بلسان الحال فضلاً عن لسان المقال أنهم نالوا ما نالوا بما أعطاهم الله تبارك وتعالى إياه.