يجب على العاقل المسلم أن يستفيد من الأوضاع التاريخية التي يعاصرها، فـ أبو طالب كان كافراً، فاستفاد النبي صلى الله عليه وسلم من جاه عمه ومن نصرته، ولم يقل: إنه كافر ولا أستعين به ولا ألجأ إليه، فإن الأوضاع تختلف من زمن إلى زمن ومن مرحلة إلى مرحلة، والمقصود هو نصرة الدين، فحيثما كان الطريق يؤدي إلى نصرة الدين فاعمل به ولا تبال؛ لأنه لا يخلو الأمر من مصالح ومفاسد، لكن إذا كان الإنسان يقدم أعظم المصلحتين ويدرأ أعظم المفسدتين فإن المقصود الأعظم نصرة الدين، وقد قبل صلى الله عليه وسلم أن يكون مع عمه وهو كافر يسجد لغير الله في شعب واحد استفادة من جاه عمه ونصرته، وكان عليه الصلاة والسلام يُثني على عمه، وتشفع له عند ربه أن يكون أهون أهل النار عذاباً، هذه الفائدة الأولى، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم استفاد من نصرة عمه أبي طالب.
الفائدة الثانية أن الهداية بيد الله، وأن الإنسان قلبه كقلب غيره بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وأنت لا تفرح بشيء أعظم من نعمة الهداية، فإن نعمة الهداية التي رزقك الله إياها أو رزقكِ الله إياها يا أختاه حُرمها أبو طالب الذي نصر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تعلم فضل الرب تبارك وتعالى عليك، ولا ييئس أحد من أحد وهو يدعوه، ولا يجزم أحد في أحد وهو يراه، بمعنى: مهما رأيت على رجل من الصلاح لا تقطع له بجنة ولا بنار، ومهما رأيت على أحد من سوء وفساد لا تقطع له بجنة ولا نار، إنما الأعمال بالخواتيم.
كان عبد الله بن أبي السرح أحد الصحابة، أسلم قديماً ثم هاجر إلى المدينة وكان يجيد الكتابة، فكان يكتب الوحي لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
فلما نزلت سورة المؤمنون كان جبريل يمليها على النبي عليه الصلاة والسلام وعبد الله بن أبي السرح يسمعها منه، (فقرأ جبريل على النبي عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}[المؤمنون:١٢] فكان يقرؤها النبي عليه الصلاة والسلام فيكتبها عبد الله، ثم قرأ:{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}[المؤمنون:١٣] فكتبها، ثم أتم الآية، حتى قال:{ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ}[المؤمنون:١٤] فكتبها عبد الله، فقال عبد الله قبل أن يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:١٤] فقال صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت علي أو هكذا أملاني إياها جبريل، فطبق الورقة التي كان يكتبها وقال: إن كان محمد كاذباً فأنا أكذب كما يكذب محمد، وإن كان محمد صادقاً فأنا يوحى إلي كما يوحى إلى محمد، وترك الإسلام وخرج من الدين ورجع إلى الكفر، وأصبح كافراً حتى كان عام الفتح).
وعبد الله هذا أخ لـ عثمان رضي الله عنه من الرضاعة، فلما كان عام الفتح دخل عثمان به على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام قد أهدر دمه، فطلب له العهد أي: طلب منه أن يصون دمه، فسكت صلى الله عليه وسلم وهو في ملأ من أصحابه، فجعل يحدق النظر فيه مدة طويلة، فلما ألح عثمان على رسول الله قال عليه الصلاة والسلام:(نعم) أي: أجرناه، فخرج عثمان بأخيه عبد الله خارج معسكر المسلمين، فلما خرجوا قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه:(أما قام منكم أحد حين رآني قد أبطأت عنه فيضرب عنقه؟ قالوا: يا رسول الله! لم نكن ندري ما مرادك، لو أشرت إلينا بعينيك، قال: ما كان ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين).
موضع الشاهد: أن هذا الرجل الذي ارتد أصابه الندم على ما كان عليه من الردة، فلما أسلم أخذ يكثر من الصالحات تعويضاً عما فات، فلما كانت الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما ترك الفتنة واعتزلها وسكن في عكا في أرض فلسطين، ومكث حريصاً على الصلوات خوفاً من أن يختم له بسوء، وذات ليلة دعا ربه: اللهم أمتني وأنا أصلي الفجر، فلما كانت صلاة الفجر صلى بالناس إماماً، وقرأ في الأولى والعاديات ضبحاً - ولم ينقل الرواة ماذا قرأ في الركعة الثانية - ثم سلم التسليمة الأولى وقبل أن يسلم التسليمة الثانية فاضت روحه إلى ربه جل وعلا، ومات في صلاة الفجر كما دعا.
فانظر كيف تقلب ثم استقر على خير حال، فالقلوب بين يدي الرحمن.
وهذا أبو طالب كان مع النبي عليه الصلاة والسلام في الحرب والسلم والسراء والضراء، وأقول: الحرب تجوزاً وإلا فلم يكن في مكة حرب، ومع ذلك لم يرزق الهداية، وقد يرزقها رجل في أقاصي الأرض كما قال الله:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[القصص:٥٦] نسأل الله لنا ولكم الثبات على هذا الدين.