في عصرنا الحديث ما أشرأب المستشرقون والطاعنون في السنة في شيء كما اشرأبوا في قضية كيف يتزوج النبي عليه الصلاة والسلام هذا العدد من النساء؟ وهذا مما يطول شرحه ولكن نقول على وجه الإجمال: لو كان النبي عليه الصلاة السلام يريد ما يفهمه الناس من الزواج من النساء إلى الأبكار أقرب منه إلى الثيبات ومع ذلك لم يتزوج بكراً إلا عائشة، ولم يتزوج الثانية إلا وقد جاوز الخمسين صلوات الله وسلامه عليه، وعاش قرابة ثلاثين عاماً مع زوجته خديجة وهي أكبر منه سناً، ولم يتزوج عليها صلوات الله وسلامه عليه، وإنما تزوج لأمور متعددة وأغراض منها ما يكون إبطالاً لحكم جاهلي كزواجه من زينب، ومنها ما يكون نصرة للدين، فإن العرب في عادتها وأعرافها السابقة كانت ترى أن الصهر يقرب بين بطون القبائل، والنبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة كان له خصوم وأعداء في القبائل، فكان يتزوج منهم حتى يكسر ثورة غضب واجتماع القبائل عليه، حتى يكون له عندهم رحم وصهر، ويكون هناك نوع من الحمية بالنسبة لهم، حيث إن بناتهم تحت نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
إن هؤلاء الأمهات رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن صبرن على شظف العيش، فليس في الزواج منه صلى الله عليه وسلم متاع دنيوي ظاهر، وإنما المكسب العظيم لهن أنهن زوجاته في الآخرة، ولذلك كان بيت النبي عليه الصلاة السلام لو رفعت يدك للمست سقفه، ولو اتكأت على أحد حيطانه ومددت قدميك للمست الحائط الآخر، وذلك من ضيق حجرات أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن.
فالنبي عليه الصلاة السلام خير نساءه ما بين البقاء معه والصبر على شظف العيش في الدنيا؛ لأن الله خيره هو نفسه، بين أن يكون ملكاً نبياً أو عبداً نبياً، فاختار العبودية، ولم يختر الملك كما اختاره داود وسليمان عليهما السلام، وبقي صلى الله عليه وسلم عبداً يشبع ويجوع ويمرض ويصح، وتجري عليه أيام شديدة عليه الصلاة والسلام، حتى إنه كان يظهر الهلال ثلاث مرات في الشهرين الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، وهو أكرم الخلق على الله، فلما سئلت عائشة عن طعامهم قالت:(الأسودان التمر والماء).
فلم يكن مما قاله المستشرقون شيء، وإنما صبرن أولئك الأمهات، وقدمن نماذج إنسانية فريدة، فمنهن من اشتهرت بالصلاة والصيام، ومنهن من اشتهرت بحب المساكين، ومنهن من اشتهرت بالعلم، تنوعت تنوع عطاؤهن حتى يستفيد المجتمع من قربهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنزل الوحي، ولذلك قال حسان يذكر حجرات أمهات المؤمنين، ونزول الوحي عليها: بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقدُ فخرجن أمهات المؤمنين يحدثن بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوتهن.