هذا الدين أنزله الله سبحانه وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بشكل مفرق، وفي كل حالة من الحالات ينزل توجيه رباني، ولهذا نزل القرآن مفرقاً حسب الظروف والأوضاع منذ أن كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وإلى أن توفي عليه الصلاة والسلام في المدينة، فهناك علم مشهور من علوم القرآن وهو علم أسباب النزول، فأكثر الآيات تقريباً تنزل إما بسبب سؤال أو بسبب حادثة، وفي القرآن يوجد بعض الألفاظ التي تدل على ذلك مثل:((يَسْتَفْتُونَكَ)) و ((يَسْأَلُونَكَ)) وهناك أمثلة ونماذج متعددة.
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تم الدين، وأكمل الله عز وجل النعمة على المسلمين، كما قال الله عز وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}[المائدة:٣]، فلما جاء عصر الصحابة رضوان الله عليهم حصلت مجموعة من النوازل، وكانوا يفتون فيها بحكم الشرع، أحياناً بالاستدلال بالعموم، وأحياناً بالقياس، وأحياناً بالقواعد العامة للشريعة، وأحياناً بمقاصد الشريعة.
وأيضاً كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتي أصحابه عندما يسألونه، ولهذا اشتهرت في الأصول مسألة: هل النبي صلى الله عليه وسلم كان مفتياً ومجتهداً، أم أنه كان في كل أحواله مبلغاً عن الله سبحانه وتعالى؟ والصواب أن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله، والنصوص التي يتكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم منها ما هو تبليغ عن الله عز وجل، خصوصاً ما يتعلق بالإيمان بالغيب والأخبار المستقبلية ونحو ذلك، ومنها ما هو إفتاء من النبي صلى الله عليه وسلم وحكم بين الصحابة، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي، وقد يكون بعضكم ألحن بالحجة من بعض؛ فأقضي له على نحو ما أسمع)، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد ويقضي على نحو ما يسمع، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في تمام الحديث:(فمن اقتطع من أخيه شيئاً فإنما هي قطعة يقتطعها من النار)، وهذا يدل على أنه ربما حكم لشخص على نحو ما سمعه منه فاقتطع شيئاً ما لأخيه، فلو كان القضاء من النبي صلى الله عليه وسلم هو تبليغ عن الله عز وجل لما وجد فيه: أن يقضي النبي صلى الله عليه وسلم على نحو ما يسمع فيقتطع حق أخيه؛ لأنه لو كان تبليغاً عن الله لجاء الحكم مباشرة بإعطاء الشخص حقه، ولهذا الصحيح في هذه المسألة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مبلغاً عن الله، وكان مفتياً، وكان قاضياً أيضاً، وقد جمع ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين مسائل كثيرة جداً من فتاوي النبي صلى الله عليه وسلم يمكن مراجعتها في هذا الكتاب العظيم.
ثم بعد جيل الصحابة أتى جيل التابعين، وتفرق الناس في الأقطار، وحصل الخلاف فيما يتعلق بفهم النصوص؛ فنشأت المذاهب الفقهية، وهذه المذاهب الفقهية لم تنشأ عن قصد، وإنما نشأت لوجود اختلاف طبيعي في فهم النصوص، فلما وجد هذا الاختلاف الطبيعي في فهم النصوص ترتب عليه اختلاف الناس في المسائل، وهذا قدر من الله عز وجل أراده للناس ليبتليهم من يكون مجتهداً حقيقياً في التوصل إلى الحق، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث أصل في باب الاجتهاد-: (إذا اجتهد المجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، وفي رواية:(إذا اجتهد الحاكم)، وهي تشمل: المفتي والقاضي أيضاً، فإذا أصاب فله أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإذا أخطأ فله أجر الاجتهاد، وهذا يدل على أنه يمكن أن يقع المجتهد في الخطأ، لكن ليس عليه إثم ما دام أن نيته صادقة، وأن أداته التي استخدمها في الاستدلال والاستنباط صحيحة.