[الوحي مصدر الحكم على النوازل]
القاعدة الرابعة: أن المصدر في الحكم على النوازل هو الوحي: وهذا من الفقه العقدي للنوازل، فالمصدر في الحكم على النوازل هو الوحي بطرق الاستنباط الشرعية، والوحي هو القرآن وما دل عليه، فالقرآن دل على السنة، كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧]، ودل على الإجماع، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:١١٥] إلى آخر الآية، ودل أيضاً على القياس، وأيضاً دل على استصحاب البراءة الأصلية، ودل على بعض وسائل الاستدلال مثل: قضايا المصالح العامة والقواعد الكلية للدين مثل: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ العرض أو النسل، ونحو ذلك، كل هذه دل عليها القرآن.
فالمصدر الأساسي هو الوحي الرباني الذي أمرنا الله عز وجل باتباعه، والوحي لم يأت بما يناقض العقول، وإنما جاء بما يتلاءم مع العقول السليمة، وبما يتوافق معها، ولهذا بين الشرع أن الالتزام الحقيقي بالإسلام يورث السعادة والراحة والطمأنينة للإنسان، وقد دلت الآثار في المجتمعات وفي الآفاق أن الالتزام بالوحي يورث الحياة المريحة والمطمئنة، وأن ما عداه من المناهج سبب في شقاء الإنسان وتأذيه.
فالمصدر في أي نازلة تنزل على الأمة هو الوحي الرباني بطرق الاستدلال الشرعي، وطرق الاستدلال الشرعي هي المعروفة في أصول الفقه، فأصول الفقه - من حيث المبدأ - أصول مجمع عليها ومتفق عليها، مثل الاستدلال بالقرآن والاستدلال بالسنة، والقاعدة التي تنص على أن ما يكون ظاهره التعارض بالجمع بينهما، فإن لم يمكن الجمع بينهما فيكون بالترجيح بقاعدة معروفة في الترجيح، وهي تقديم القرآن على السنة وتقديم السنة المتواترة على الآحاد، وتقديم ما في الصحيحين على ما كان في أحدهما، أو تقديم ما في البخاري على مسلم.
وهكذا بالطريقة التي تدل على قوة هذا الدليل، سواء من حيث الثبوت أو من حيث الدلالة، فالنص الخاص أقوى من النص العام، والنص العام الذي لم يُستثنَ منه أقوى من النص المحفوظ الذي استثني منه، والنص المقيد أقوى من النص المطلق، وهكذا القول أقوى من الفعل، فما ورد من قول النبي صلى الله عليه وسلم من حيث الترجيح أقوى مما ورد من فعله، وهذا علم معروف ومشهور، وهو علم أصول الفقه وأصول الاستنباط من الأدلة، واعتبار لغة العرب مهم جداً في فهم الأحكام وفي فهم الأدلة.
إذاً: فهذا هو المصدر وما عداه من المصادر فإنه غير معتبر، فمثلاً: الاعتماد على العقل المجرد غير معتبر، والاعتماد على الإمام المعصوم - كما هو عند الشيعة - هذا غير معتبر، وأي مصدر غير الوحي والتعامل مع الوحي بغير منهج الاستنباط الشرعي أيضاً غير معتبر.
فمثلاً: لو أن إنساناً تعامل مع الوحي بالتأويل - والتأويل هو صرف النصوص عن ظواهرها لأي شبهة أو لأي عارض من العوارض - فهذا أيضاً غير معتبر، والاستدلال بحديث واحد أو بنص واحد وإلغاء ما سواه هذا مرفوض، مثل ما يفعل الخوارج؛ فإنهم يستدلون على التكفير بنص واحد؛ يأخذون منه معنى التكفير ثم يلغون بقية النصوص.
أيضاً التعامل مع النص الشرعي بأدوات غير الأدوات الشرعية، مثل استخدام المنطق الصوري في التعامل مع النص الشرعي، أو استخدام علم مشهور عند الغربيين، وهذا العلم هو من علوم اللغة ومن علوم التأويل، وبعض المناهج العصرية المنحرفة في التعامل مع القرآن والسنة تطالب بالاستفادة من هذه المناهج وأخذها كأدوات في فهم النص الشرعي، فيسمونه (الهرمونيطيقيا)، وهو علم التأويل، فيقولون: فلان هرمي، يعني: يعتمد على منهج الهرمونيطيقيا؛ بحيث إنه يتعامل مع النص بالتأويل.
وعندهم المنهج المادي، والغرب - في الأصل- كله قائم على المنهج المادي، وأن العالم فيه كل ما يحقق سعادة الإنسان بدون ارتباط بأي جهة خارجية غيبية.
وبناءً على هذا يرون أن العالم وحده مترابط ترابطاً تاماً يكفي الإنسان في تحقيق سعادته ومنفعته؛ لأنهم يعظمون مذهب المنفعة تعظيماً كبيراً، وهو تحقيق أكبر قدر ممكن من سعادة الإنسان ولذته.
ومن فقرات منهجهم في التعامل مثلاً: اعتقاد موت المؤلف، وهذا معناه: أن أي نص يخرج من قائله فإنه لابد أن نفصل بين القول والقائل فصلاً تاماً ونعتقد أن القائل انتهى؛ ولهذا يعبرون بكلمة موت لكي تدل على الانتهاء، والمؤلف يعني: القائل، فموت المؤلف يعني: انتهاء القائل، وأصبح النص من حق كل قارئ أن يقرأه ويفهمه ويفسره بالطريقة التي يراها صحيحة ومناسبة.
ولهذا يرون أن النص الواحد أحياناً يمكن أن تتعدد قراءته، فالعلمانيون الآن يقولون: قراءتكم للنص قراءة متشددة، فيمكن أن نقرأ النص قراءة غير متشددة، وقراءة النص معناه: تفسير النص، وهم في الحقيقة يريدون أن يستخدموا أهواءهم في القرآن والسنة بحيث إنهم ما داموا يعايشون مجتمعاً إسلامياً يزعمون أنهم يعتمدون على الوحي.
إذاً المصدر في