أحدُهما: أن يكون منَ مرادُه الأمرَ بالأسباب التي توجب حُسْنَ الخُلُقِ من الكرم والسخاء والحلم والحياء والتواضع والاحتمال وكفِّ الأذى، والصفح والعفو، وكظم الغيظ، والطَّلاقةِ والبِشْرِ، ونحوِ ذلك من الأخلاق الجميلة، فإن النفسَ إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه.
والثاني: أن يكونَ المرادُ: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حَصَلَ لك، بل جاهد نفسَك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به، فإن الغضب إذا ملك ابنَ آدم كان كالآمر الناهي له، ولهذا المعنى قال الله عز وجل:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}[الأعراف: ١٥٤] فإذا لم يمتثل الإنسانُ ما يأمره به غضبُه، وجاهد نفسه على ذلك، اندفع عنه شرُّ الغضب، وربما سكن غَضَبُهُ، وذهب عاجلًا، فكأنه حينئذ لم يغضب، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارةُ في القرآن بقوله عزَّ وجلَّ:{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}[الشورى: ٣٧]، وبقوله عز وجل:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: ١٣٤].
وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمر من غَضِبَ بتعاطي أسبابٍ تدفعُ عنه الغضبَ، وتُسَكِّنُهُ، ويمدح من ملك نفسَه عند غضبه، ففي "الصحيحين" عن سليمانَ بنِ صُرَد قال: استَبَّ رجلانِ عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ عنده جلوسٌ، وأحدُهما يَسُبُّ صاحبهُ مغضبًا قد احمرَّ وجهُهُ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعْلَمُ كلمةً لو قالها، لذهبَ عنه ما يجد، لو قال: أعوذُ بالله من الشَّيطان الرجيم" فقالوا للرجل: ألا تسمعُ ما يقولُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: إني لَسْتُ بمجنونٍ (١).
وخرَّج الإمامُ أحمد والترمذيُّ من حديثَ أبي سعيد الخُدري أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
(١) رواه البخاري (٦١١٥) و (٣٢٨٢) و (٦٠٤٨)، ومسلم (٢٦١٠)، وانظر تفسير قوله: "إني لست بمجنون" في "فتح الباري" ١٠/ ٤٦٧.