وكونه خلق أفعال العباد وفيها الظلمُ لا يقتضي وصفَه بالظُّلم سبحانه وتعالى، كما أنَّه لا يُوصَفُ بسائر القبائح التي يفعلُها العبادُ، وهي خَلْقُه وتقديرُه، فإنَّه لا يُوصَفُ إلَّا بأفعاله لا يُوصف بأفعال عباده، فإنَّ أفعالَ عباده مخلوقاتُه ومفعولاتُه، وهو لا يُوصَفُ بشيءٍ منها، إنَّما يوصَفُ بما قام به من صفاته وأفعاله والله أعلم.
وقوله:"وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تظالموا" يعني: أنه تعالى حرَّم الظلم على عباده، ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم، فحرامٌ على كلِّ عبدٍ أن يظلِمَ غيرَه، مع أن الظُّلم في نفسه محرَّم مطلقًا، وهو نوعان:
أحدهما: ظلمُ النفسِ، وأعظمه الشِّرْكُ، كما قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان: ١٣]، فإنَّ المشركَ جعل المخلوقَ في منزلةِ الخالق، فعبده وتألَّهه، فوضع الأشياءَ في غيرِ موضعها، وأكثر ما ذُكِرَ في القرآن مِنْ وعيد الظالمين إنَّما أُريد به المشركون، كما قال عزَّ وجلَّ:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة: ٢٥٤]، ثمَّ يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائرَ وصغائرَ.
والثاني: ظلمُ العبدِ لغيره، وهو المذكورُ في هذا الحديث، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع:"إنَّ دماءَكم وأموالَكُم وأعراضَكُم عليكُم حرامٌ، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"(١). وروي عنه أنه خطب بذلك في يوم عرفة، وفي يوم النَّحر، وفي اليوم الثاني من أيَّام التشريق، وفي رواية: ثم قال: "اسمعوا منِّي تعيشوا، ألا لا تَظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا
(١) رواه من حديث أبي بكرة البخاري (٦٧)، ومسلم (١٦٧٩)، وصححه ابن حبان (٣٨٤٨)، وانظر تمام تخريجه فيه.