حينئذ، وقد جعل ذلك نقصًا في دينها، فدلَّ على أن من قدَرَ على واجبٍ وفعله، فهو أفضلُ ممَّن عجز عنه وتركه، وإن كان معذورًا في تركه، والله أعلم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ رأى منكم منكرًا" يدلُّ على أنَّ الإِنكارَ متعلِّقٌ بالرُّؤية، فلو كان مستورًا فلم يره، ولكن علم به، فالمنصوصُ عن أحمد في أكثر الروايات أنَّه لا يعرِضُ له، وأنه لا يفتِّش على ما استراب به، وعنه رواية أخرى أنَّه يكشف المغطَّى إذا تحقَّقه، ولو سَمِعَ صوتَ غناءٍ محرَّمٍ أو آلات الملاهي، وعلم المكانَ التي هي فيه، فإنه يُنكرها، لأنه قد تحقَّق المنكر، وعلم موضعَه، فهو كما رآه، نصَّ عليه أحمد، وقال: إذا لم يعلم مكانَه، فلا شيءَ عليه.
وأمَّا تسوُّرُ الجدران على من علم اجتماعَهم على منكرٍ، فقد أنكره الأئمَّةُ مثلُ سفيان الثَّوري وغيره، وهو داخلٌ في التجسُّس المنهيِّ عنه، وقد قيل لابن مسعود: إنَّ فلانًا تقطر لحيتُه خمرًا، فقال: نهانا الله عَنِ التَّجسُّس (١).
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب "الأحكام السلطانية": إن كان في المُنكرِ الذي غلب على ظنِّه الاستسرارُ به بإخبار ثقةٍ عنه انتهاكُ حرمة يفوتُ استدراكُها كالزنى والقتل، جاز التجسسُ والإِقدام على الكشف والبحث حذرًا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم، وإن كان دُونَ ذلك في الرُّتبة، لم يجز التَّجسُّسُ عليه، ولا الكشفُ عنه.
والمنكر الذي يجب إنكاره: ما كان مجمَعًا عليه، فأمَّا المختَلَفُ فيه، فمن أصحابنا من قال: لا يجب إنكارُه على من فعله مجتهدًا فيه، أو مقلِّدًا لمجتهدٍ تقليدًا سائغًا.
واستثنى القاضي في "الأحكام السلطانية" ما ضَعُفَ فيه الخلافُ وكان
(١) رواه عبد الرزاق (١٨٩٤٥)، وأبو داود (٤٨٩٠)، والطبراني في "الكبير" (٩٧٤١)، والبيهقي ٨/ ٣٣٤، وإسناده صحيح.