فهذا المثل في غاية المطابقة بحال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مع أمته، فإنَّه أتاهم والعرب حينئذٍ أذلُّ الناس، وأقلُّهم، وأسوؤهم عيشًا في الدُّنيا وحالًا في الآخرة، فدعاهم إلى سلوك طريق النجاة، وظهر لهم من براهين صدقِه، كما ظهر من صدق الذي جاء إلى القوم الذين في المفازة، وقد نَفِدَ ماؤهم، وهَلَك ظهرهم برؤيته في حُلة مترجلًا يقطر رأسه ماءً، ودلهم على الماء والرياضِ المُعشِبة، فاستدلُّوا بهيئته وحاله على صدق مقاله، فاتبعوه، ووعدَ من اتَّبعه بفتح بلاد فارس والروم، وأخذِ كنوزهما، وحذَّرهم من الاغترار بذلك، والوقوف معه، وأمرهم بالتجزي من الدُّنيا بالبلاغ، وبالجدِّ والاجتهاد في طلب الآخرة والاستعداد لها، فوجدُوا ما وعدهم به كلَّه حقًّا، فلما فُتِحَت عليهم الدُّنيا - كما وعدهم - اشتغل أكثرُ النَّاسِ بجمعها واكتنازها، والمنافسة فيها، ورَضُوا بالإِقامة فيها، والتمتُّع بشهواتها، وتركوا الاستعداد للآخرة التي أمرهم بالجدِّ والاجتهاد في طلبها، وقبلَ قليل من الناس وصيَّته في الجدِّ في طلب الآخرة والاستعداد لها. فهذه الطائفةُ القليلة نجت، ولحقت نبيَّها في الآخرة حيث سلكت طريقه في الدُّنيا، وقبلت وصيَّته، وامتثلت ما أمر به. وأما أكثر الناس، فلم يزالوا في سكرة الدُّنيا والتكاثر فيها، فشغلهم ذلك عن الآخرة حتَّى فاجأهم الموتُ بغتةً على هذه الغِرة، فهلكوا وأصبحوا ما بين قتيل وأسير.
وما أحسن قولَ يحيى بن معاذ الرازي: الدُّنيا خمرُ الشيطان، من سَكِرَ منها لم يُفِقْ إلَّا في عسكر الموتى نادمًا مع الخاسرين.
الحال الثاني: أن يُنزِلَ المؤمنُ نفسَه في الدُّنيا كأنَّه مسافرٌ غيرُ مقيم ألبتة، وإنَّما هو سائرٌ في قطعِ منازل السفر حتَّى ينتهي به السفرُ إلى آخره، وهو الموت. ومن كانت هذه حالَه في الدُّنيا، فهمَّتُه تحصيلُ الزاد للسفر، وليس له هِمَّةٌ في الاستكثار من متاع الدُّنيا، ولهذا أوصى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من أصحابه