ــ ـ[عمود:١]ـ عقدوها لتلاوة أورادهم وكان من عادتهم أن يغمضوا أعينهم عند تلاوة هذه الأوراد, وكان من عادتنا نحن أن نفتح أعيننا وأن لا نغمضها عند قراءة الأوراد وما هي إلا أن عرفوا أني لا أغمض عيني حتى طردوني وقالوا لي أنت لست من طريقتنا. وكنت أعتقد أن الرجل منا إذا بسط الله له في الرزق, فربحت تجارته أو صلحت ذريته أو بارك الله له في عمل من أعماله فليس معنى ذلك أن العناية الربانية قد حفت به, بل معنى ذلك أن معه همة الشيخ, ولا نطلب من أحدنا أن يحسن ظنه بالله بل نطلب منه أن يحسن ظنه بالشيخ! ولا نقول من مات وآخر كلمة قالها لا إله إلا الله دخل الجنة بل نقول: من مات وهو يلهج باسم الشيخ دخل الجنة دون حساب ولا عقاب, وقد مات رجل منا فجاء أقاربه إلى سيدنا رئيس الزاوية المركزية وقالوا له لقد بقي اسم الشيخ سيدي فلان جدك في فم المرحوم إلى النفس الأخير من حياته, فقال سيدنا مات شهيدا وهو اليوم في أعلى عليين! وكان لطريقتنا مقدم في إحدى النواحي قد توفي إلى رحمة الله وأراد شيخنا صاحب الزاوية أن يسمي لطريقتنا مقدما آخر في تلك الناحية ودعانا إليه نحن خواصه يستشيرنا فيمن يصلح أن يخلف (المقدم) المرحوم في مهمته, فدللته أنا على طالب علم فقيه من أهل تلك الناحية كلمته عندهم مسموعة وله عليهم نفوذ, فقال سيدنا: إياكم من الفقهاء وإياكم من طلبة الوقت, فإنهم زنادقة المقت ((لا نية لهم)) وهل رأيتم تيسا يدر ((ويحلب))؟ قلنا: اللهم لا, قال: كذلكم الطالب ((لا يزور)) ولا خير فيه!! وتكلم آخر فدله على رجل هو من عباد الله الصالحين المتقين لم يعرف أهل ناحيته أمتن منه دينا, ولا أصلح منه حالا
ـ[عمود٢]ـ فقال لنا سيدنا: وهذا الرجل أيضا لا يصلح لنا, قلنا: ولماذا؟ قال لأنه من الذين لا يجدون ما ينفقون, ونحن في حاجة إلى صاحب ثروة ويسار, إذا نزلنا في ضيافته أكرمنا وأطعمنا وسقانا مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وقد تكون معنا حاشية وخدم وننزل عنده على الرحب والسعة وإذا كنا نريد الزيارة أجزل لنا الهبة والعطاء!! فقلت في نفسي إن سيدنا في الحقيقة يريد صاحب فندق (هوتيل) يقيم فيه مجانا لا يدفع أجرة الخدمة والمبيت ولا ثمن الطعام والشراب, وما أظنه يريد مقدما للطريق. وأرسَلنا سيدنا إلى رجل صاحب ثروة عظيمة في تلك الناحية, وأخبرناه أن سيدنا قد أنعم عليه فجعله مقدما, وكان رجلا قتل الدهر تجربة وخبرا, فأبى وامتنع من القبول, فطلبنا منه أن يقبلها لابنه, فقال ويحكم يا هؤلاء! وكيف أرضى لابني ما لا أرضاه لنفسي؟ ودعا بابنه وقال له ونحن نسمع: يا بني هل تريد أن تكون خادما؟ قال لا. قال: إذا أنا أفضيت إلى عملي فإياك أن تكون ((مقدما)) لأية طريقة من هذه الطرق, فإنك إذا فعلت نزل عليك الشيخ بخيله ورجله فإذا دارك فندق ((مجاني)) وإذا أنت وعيالك وأولادك تقومون على خدمته وخدمة حاشيته, ثم إذا ربحت وأفلحت قال الناس لقد أفلح ببركة الشيخ وإذا أصابك مكروه قالوا ((دقه الشيخ)) وظنوا بك الظنون, وإذا أنت رضيت أن تكون مقدما فاعلم أن الشيخ لا يكفيه منك يومئذ قليل ولا كثير, فخير لك أن تترك هذا الأمر للذين قد يتعايشون عليه. ورجعنا إلى الزاوية لنخبر ((سيدنا)) بما جرى وكنا في مساء الجمعة فلم يقابلنا لسفره إلى مكة, وهو يسافر إليها يوم
ـ[عمود٣]ـ الجمعة من كل أسبوع ولا يراه الزوار إلا يوم السبت, فانتظرنا إلى صباح السبت وأخبرناه بما وقع فتأسف واغتم كثيرا, وبعد ذلك عرفت السبب في أنه لا يرى الزوار إلا يوم السبت, وذلك لأن يوم السبت هو يوم يتقاضى فيه العَمَلة الأجراء أجورهم من مخدوميهم الإفرنج. أما يوم الجمعة فهو آخر الأسبوع يكون فيه ((الزائر)) خالي الوفاض بادي الأنفاض لا يقدر أن يزور الزاوية فيه بشيء. قال الراوي: وكنا ذات يوم عند سيدنا فجعل يذاكرنا في مناقب الشيخ مؤسس طريقتنا فذكر لنا عنه كثيرا من الفضائل والمعجزات وذكر لنا أن مريده لا يشقى أبدا, وأنه حرام على النار لا يدخلها مهما كان مذنبا عاصيا, وحثنا على الزيارة وقال: زوروا تنوروا وقال من زارنا بفرنك كتب له عند الله عشرة فرنكات, واستدل على ذلك بقوله تعالى (((من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها))) وقال: الحسنة هي ما تدفعه (زيارة) وهكذا يحرف كثيرا من الآيات الكريمة, واستأذنه رجل في الكلام فقال أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقص علينا رؤياه قال ثم رأيت ((الشيخ)) وأنت إلى يمينه وقال لي خذ العهد عن ابني هذا, ففرحوا جميعا بهذه الرؤيا, ونسوا رؤياه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يذكروها. وترى الواحد منهم يخطر بباله ((الشيخ)) مائة مرة في اليوم ولا يخطر بباله النبي صلى الله عليه وسلم ولا مرة واحدة. وهم حينما يصلون عليه صلى الله عليه وسلم إنما يطيعون الشيخ في تلاوة صيغة الصلاة التي اختارها ودليل ذلك أن كل طائفة تتلوا صيغة شيخها ولا تتلوا الصلاة الإبراهيمية التي ورد بها الحديث الصحيح, وتجد الواحد منهم يحفظ كل ما ينسب إلى شيخه من الفضائل والمناقب والمعجزات ويعتني