قال: فلم أزلْ ألامسُ أربابَ هذي الطريقةِ وألابسُ، وأجالسُ أزهارَ هذِه الحديقةِ وأمارسُ، وأجوبُ كلَّ فجٍّ عَميقٍ، وأشوبُ الدَّعَةَ بكلِّ قُطرِ سحيقٍ، إلى أنْ مجَّني فم حُلقوم القَدَرِ المرقوم، إلى مدائنِ الروم، معْ معاقرةِ القُروم، فجعلتُ أجتَبي بَلدة تصلحُ لطلبي، ولا تفضحُ ستورَ مُتَقَلبي، ففرَّحني لفِكرُ المدقِّقُ، وسَّرحَني الحِسُّ المحقِّقُ، إلى استحلاس أرزنكانَ، وقد كانَ مِن شدةِ المحافظةِ ما كانَ، فدخلتُها فَرِحاً باهتزازٍ، دخولَ مَنْ حَظِيَ بركازٍ أو مُنِح بقبض توقيع اعتزاز، فبينَا أَنا أطوي المَناهجَ، واسْتَنْشرُ المعارجَ، واسترشدُ الساكنَ والمارجَ ألفيتُ صُوفيَة صَفَتْ صِفتُهم صَفاء الزلالِ، وضَفَتْ مودَّتُهم المائلةُ عنِ المَلالِ. وأنحفهُم محالفةُ الاجتهاد، وأسكَرهُم كأسُ سُلافِ السُّهادِ، فسَلّمْتُ عليهم تسليمَ مَنْ وَلَجَ في مَضيقهم، وصبرَ على صبر ضُرِّ ضيقِهم، فانثالُوا إلى مصافحِتي، وانهالُوا للالتحافِ بلِحافِ ملاحفتِي، فاَبتهجتُ بتعييدِهِم، وأكرموني إكرامَ عميدهِم، وأنا مَعَ إجادةِ تُؤدتِهم، وحسَنِ مودتهم، أعجبُ لجَودةِ اَرتباطِهم، ولا أعلم مَنْ زعيمُ رِباطِهم، لإنفاقِهم من ذلكَ الإلمام، واتفاقِهم في السَّحْلِ والإبرام، وحينَ شرعَ البَشرُ في الصِّياح، وانتشرَ ريشُ جؤجؤ الفَلَق والجَناح، أخذتُ بعد نَهْلِ نعيمِهم، في استعلام خبرِ زعيمهم، قالوا: اَعلمْ لا زلتَ عينَ العزيزِ، مضاعفَ التعزيز، أنَّهُ درجَ منذُ أيام قلائلَ، فشققنا لفراقه الغَلائلَ، أنفقنا لتجهيزهِ الجلائلَ، وطُفْنا بعدَ دَفْنهِ القبائلَ، فلم نرَ مَنْ يَليقُ لمَسْنَدهِ، ولا مَنْ يُطيقُ قَبْضَ قائم مُسْنَدهِ، وأمَّا الآن فقد مَنَّ اللهُ علينا، بقدوم قدمِكَ إلينا، ونَحنُ نَمُدُّ إلى سماء إحسانِكَ أكفَّنَا، لتحسمَ نظرنَا عن غير زعامتِكَ وتكفّنا، لِمَا شاهدْناهُ من شَرَفِ شِمالِكَ، وعَدَم جَنُوبِك في المُجانبة وشَمالِكَ، ففي قَبولكَ أنفسُ مسرَّةِ، وفي ضمَّنا إليكَ أعظمُ مبرّةٍ، فقلتُ لَهُم: أنَّى تُظلّلُ الدّوْحَ الأجارعُ، وتعلو على رؤوس السادةِ الأكارعُ، أم كيفَ يرتاحُ مَعَ الخليَ النازعُ، وتنقادُ بِرَسَنِ يدِ النَّسيم الزعازعُ، وأنىِّ لِما ذكرتُمُوهُ وَجومٌ، فَكَمْ صرَع هجومٌاً هجوم، وما أمّلتموهُ فملومٌ، وما منّا إلاّ لَهُ مَقامٌ معلومٌ، فقالوا: قد رأْينا قربَكَ نعيماً، ورضيناكَ لرَهْطِنَا زعيماً، فأجِبْ لِنُسعدَ بد، ونكتسبَ عقودَ أدبِك، قالَ: فأجبتُ إلى ما سألوهُ، وبذلتُ لَهم مِنْ خِزانةِ الإجابةِ ما اَستبذلوهُ، وبينما أنا ذاتَ ليلةٍ أطْرِفُ. بِما أقولُ، ونَشُولُ عَلَى ألسنة أسِنّة السَّهرِ بما نقولُ، إذ قرعَ حلقةَ البابِ، مع انسكابِ الرَّبابِ ضيف اعتادَ الطروقَ، واَتّخذَ مصباحَهُ البُروقَ، وقالَ: يا قضَاةَ القُضاةِ، وأساةَ الأساةِ، وفرسانَ التجمُّلِ، وإخوانَ التّململِ، هل لكُم في إيواء غَرْيب سائح، وزهيدٍ نازح، وفقيرِ طائح، ووقيرٍ نائحٍ، قد أذلَّتُهُ حنادسُ لونها الحَمَمُ يَسودُ، وأضّلته ضِباعٌ المَضْيعةِ، والأسودُ، وهو مَعْ صَعَرِ اللِّيتِ، وصَفَر الحَميْتِ، مستغن عن البِيْتِ، مفتقر إلى المَبِيْتِ، قال القاسمُ بنُ جريالِ: فلمّا نبأتْنَا بوارقُ غَمامهِ بما سيطفحُ من سيولِ إلمامهِ، وعرَّفَنا عَرْفُ عباراتهِ، بما سيتوقَّدُ من حرارةِ محاوراتهِ، أيقْنا أنَّهُ مِمَّنْ يثابرُ على مناظراتهِ، ويبادرُ إلى حلِّ حلاوةِ حُلْوِ محاضراتهِ، ولمَّا ردَى نحونا وردينا، وطالعَ صبحُ صَباحةِ قربهِ فاهتدينا، ألفينا عليهِ شعارَ الزهَّادِ، واستشعارَ العُبَّادِ، وإماراتِ الجوع، وإشاراتِ الخشوع، فاستحضرنا نفاضة الزبيلِ، وملنا إلى غَمْزِ يدهِ أو التقبيل معتذرينَ لذلكَ القَبيل، فأعرضَ عن
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute