فلا تركنن يوماً إلى ودّ صاحبٍ ... فكم صاحبٍ أصلى الصديق المصاليا
وكم مبعدٍ أضحى من العرّ عارياً ... وكم من أخٍ أمسى من المكر كاسيا
قال: فوقفت على الأبيات، وانصرفت إلى الأبيات، وأنا ذو وبال ذميم وبال دميم، أتهافت تهافت سقيم غير مستقيم، كأنني غلام فارق اللبان، وحسام طلق الجربان، ولم أزل منذ بانً، وأبان ما أربى على أبان، بعدما بعد وآن، واصلولب ولان، ألعنه إلى الآن.
[المقامة الثانية الطوسية]
حدَّثَ القاسمُ بن جريال، قال: رُميت عن كبِدِ قوس القضاءِ، الجزيلِ الأنضاء، الوارفِ المتاعب، الوافرِ المعاتب، إلي مدينة طُوْس، وقد طرحتُ الحظ الموطُوسَ واطّرَحْتُ الناموسَ، وحكيتُ بالحِكمَ بطليموسَ، وأنا إذ ذاك طاعمٌ وكاسي، سارحٌ ما بين سَيْنى رِياسي وكاسي، لا أحرنُ لضيقِ قيض يوارى، ولا أحذر ازدحام ضيف فيْض أوارى الواري، فتَخِذْتُ بها صَحباً اتخذوا الأدبَ دِثارا، ودارةَ القمر، دياراً، والمَرَحَ حِواراً، وزُبَدَ المزايا مَزارا، غير أنَّهم - مع مفارقةِ العُنّةِ، ومواصلةِ الأعنةِ، ومقاطعةِ مظنّةِ الظِنة، ومتابعة مُنة المئنَّةِ - أَقْحَل من الأسنّةِ، وأفلَس من رواجبِ الأجنّةِ، فوجدتُهم - بعدَ التجلِّي، والتملِّي بذلك التحلِّي: الطويل
بحوراً بلا غَوْر، بدوراً بلا دُجىً ... صخوراً بلا مَوْرِ صقوراً بلا شَكْلِ
مثالُهم في الفضل رأس بلا غِطاً ... وغيرُهُم بالجهلِ نعلٌ بل رجلِ
فبينما نحن نَدْأَبُ لتحصيل الشارع، ونطلبُ صَفيَّ المَشارع، ونحمدُ جُودةَ الطالع، بين هاتيكَ المَطالع، إذ اجتزنا بناد اجتمعَ فيهِ كلُّ مناظر أريب، وبرعَ بهِ كلُّ عُراعَرِ أديبْ، وخَزَمَ عَوْدَ عِرْفانِه كلُّ بارع لبيبٍ، وجزم وضينَ أضغانه كلُّ مقارع مَهيبٍ، ففاقَ كلَّ مربع خصيبَ، وشاق كل مَرْتع رحيبٍ، فانخرطنا في نصاحِهم، وغبطنا غرائبَ فِصاحِهم، فلحظَ أكليلُهُم زُلالَ ورْدِنَا، وأخذَ يستنشِقُ ماءَ ورْدِنا، ولمّا دار كوبُ الفَضْلِ الماضَر، وطار لعُقابِ الزُّبدِ يعقوبُ الحزنِ الناظر، وأمعنوا من ثِمارِ عُودِنَا، وأذعنوا لِزماجر رُعَودِنا، أقبَلَ يصولُ صافِنُ المذاكراتِ، ويجولُ جارحُ الجَدَلِ في حمائم المحاضراتِ، وتَطْمِسُ المحادثةُ عيونَ المَلالِ وتُخرسُ المباحثة ألسنة الكلالِ، إلى أن قرِن بقرنِ تلك القروم نظمُ المنثور ونَثرُ المنظوم فكلٌّ إلى ذاكَ آل، ورفضَ المالَ والمآلَ، وكانَ قد ولجَ في سلوكِ تيك الكُبراءِ، ومَرَج بمروج هاتيكَ الكُرماءِ، رجلٌ أنفقَ في النُكَتِ غمْرَهُ ومزَّقَ لتحصيلِ النكت عمرَهُ، وسَعَّرَ في كل بحثٍ وطيساً، وصيَّرَ علمهُ عنِ البشرِ أنيسا، وشُب فَهمه وقَدْ وَقَدَ، وحُبِّ هُجْر هَجْرهِ فقد فقَدَ، صاحبُ غاياتٍ قد انفَذّ، وجالبُ راياتٍ هِمَم فلجَ بها وبَذِّ، فقال: يا أخوة الفِطَنِ، وصفوَة الزمنِ، هل سمعتم بمنظوم سُبِكَتْ حروفُه فعادَ منثوراً مفهوما، أو منثورٍ أخُذَ بكمالهِ فصار في