العَروض منظوما، ظَعوناً بالسيادة، مصوناً عن النقص والزيادةِ، فإنَّ سَلْب المعاني غيرُ مبتكَرٍ، وسَلْبَ الحروفِ شديدٌ غيرُ محتَقَر، فقلنا: لا ومن طرقَ بالاَ إفضالِه الأوّادْ ونطقَ بشُكره لسانُ الأزمنةِ حين سوَّاه فإنَّ ذلك مما تثُور به البرَحاء، وتبورُ لكفاح حروبهِ الفصحاءُ، ولم يُسْمَعْ بمثلهِ منذ كسا أدمَ آدمَ الوَرقُ، ودعا الفضلاءَ لأبوابِ الغباوةِ الوَرِقُ، فهل في عُرام علمكَ الجرَّارِ دُر من هذا الأسلوبِ، أو غمام عَزمِكَ الدرّارِ دَرٌّ من ذلك الشؤبوبِ، فقال: لا ولكن نَشيمُ برُوقَ القرائِح لهذا اللائح، ونُديمُ خُفوقَ الفِكَرِ الفائح لهذا السيلِ السائح، فمن ابتدَعَ منهُ شيئاً، جعلنا له من أموالنا فيئاً، قال: فرفلنا لذلك الإشعارِ، في فَدافد الترسل والأشعار، وأرقلنا بذلك الإسعار، لمعرفةِ ارتفاع القيَم والأسعارِ، فعُدنا من تحتِ ذيَّاك الغُبارِ، ومكابدةِ الاختبارِ، وقد قادنا أقرادنا وأبادَنا اجتهادُنا، وانكشفَ ذلك الضَّبابُ، وانكشف ذلك الضبابُ، واعترفنا بمعالجة عَوْم عسير، مذ اغترفنا بمَتْح كَفِّ كُوع كسيرٍ، وإذا بشيخ قَد نهض من طُرّةِ الطّراف، متضائلَ الأطرافِ قد احدودبَ ومالَ، وسئم، سِربالَهُ الأسمالَ، وانتشر من ثَمَر قوّته ما صنف وانعطفَ من بَطَر نهضته ما تثقفَ، فلمّا حاذى السماط، وخلعَ نعلهُ الأسماطَ، دب دبيب حامل، وحيّا تحية خاملٍ، وقدَّم اعتذارَ فاضلٍ، وتقدَّمَ تقدُّمَ ناضل مناضلِ، وقال: يا هجَانَ الهِجانِ، ورجانَ الرِّجانِ، وجُمَانَ الجمان وأساةَ زَمنىَ الزمان، أعلمُكم أنّنَي ولجتُ ناديَكم، وكنتُ بهذه الساحة ساديَكم، فربضتُ بأطرافِ الذَّلاذلِ عندَ مطافِ الأراذلِ، خاطباً حبائبَ فوائدكم، لا طالباً خبائبَ موائِدكم، ولعلمي بأنَّ عيصَكم أفضلُ الأعياص، دخلتُ عليكم دخول الميم الزائدةِ على الدِلاص، ولم أر زعيمَكم بالاقتراح، إلاّ كمَنْ يبغي اجتماعَ النار والراح، أو كمن يستجدي العداء من الغربَان، ويستهدي الغذاءَ من الغَرثانِ وقد كنت حين خَبَتْ سيولُ أذهانكم، وكَبَتْ خُيولُ رِهانِكم، ونَبت سيوفُ أفهامِكم، ورَبَتْ زُيوف اهتمامِكم، أغضى على قذى احتمالِكم، وأمضى في أذى احتيالِكم، فلما تمزَّقت أهباؤكم، وتدفَّقتْ أعباؤكم، نهضت هِمّتي نهوضَ السوذنيقِ لعجزِكم عن ركوب نيقِ ظَهْر ذلك الفنيق، وقد تحتم التقدّمُ لهذا الحال، تحتَّمَ تقَدم مالا يتصرفُ على الحالِ فانظروا إلى عَسيب حرفتي لا عسيب حِرفتي، وقشيب حلّتي، لا قشيبَ حُلّتي، وصميم خَلَّتي لا رميم خِلَّتي، فمن قنعَ بملاحةِ غِمْدِ عَضْبه، فاتَهُ الظَّفَر يومَ حلولِ حربه، وإياكم والاحتقار، فإنّهُ يورثُ البوارَ، فلما قَدَ ما قدَّم من كلامه، وجدَّ ما جدَّ من جَموم جمامه جثا من وسَطِنا أوسطنا وأنشطنا للطلب وأضبطنا، وقال له: يا صاحبَ الصّدف المملوءِ بالصَّلَفِ، وكاسبَ الشرف العاري عن الترفِ، إنْ أتيتَ مما ارتويتَ بما حكيتَ، كان لك منا ما أوعيت لما وعيتَ، وإن أبيت عمّا عنيت إذ ادعيت، ساءك خَسْر ما اشتريتَ بما شريتَ، وضُر ما أفديت مذ افتريتَ، وإن شِئتَ خوّلناك أجملَ لباسنا، وأكمل أفراسِنا، وهو أشرفُ قَبولا، وأمتُن سولاً، وأحسنُ هدى ونسولاً، وللآخرة خير لك من الأولى، ثم قال له: اعلم أنني تصفحتُ أمس كتابَ الحماسةِ، العالي على العقيانِ في النفاسةِ، فأطربني منه قَولُ الصمةِ الكئيب، الواردُ في أولِ باب النسيب، إذ تجللَ جَوادَ المجالِ فجالَ، وتقلقلَ لمقانبِ الانتقالِ فقالَ: الطويل:
حننتَ إلى ريّا ونفسُكَ باعدتْ ... مزارك من ريّا وشَعباكما معَا
فما حسن أن تأتي الأمرَ طائعاً ... وتجزعَ إلىْ داعي الصبابةِ أسمعا