للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

النفاضةِ، وعرَّضَ بدُخولهِ في الريَاضةِ، ثم أقبلَ يُسمعُنا من لمحاتِ حقائقهِ، ما يُغنِي عَنْ نفحاتِ حدائقهِ، ويَنْشُرُ من لَطيفِ طرائقهِ، ما اَنطوَى عَنْ بهجةِ نُضَارِ النَّضَارةِ ورائقهِ، حتَّى اقتنصَ بمَخْلبِ بَراعتهِ حبّاتِ البصائرِ، وقَنَصَ عينَ عقولِنا بطوال عرائسه القَصائرِ، ونَقَصَ قطرُنَا عندَ سُحُوح سَحائبهِ، ورقَصَ حَبَبُ إفصاحهِ، على رؤوس كؤوس سبائبهِ، فشُغْلنا بذلكَ الشِّهادِ، عن مراجعةِ الجِهاد، واشتغلْنا بذلكَ الإروادِ، عن مُراودةِ الأورادِ ولمّا فَرّتْ جَحافلُ جهادِنا، وكرَّتْ كتائبُ رقادِنَا، انكفأَ كلٌّ إلى مرقدهِ، وقد شُدِهَ بأسودِ إرشاده ونقدهِ، فانطلقتُ بهِ إلى مَخْدَع شاغرٍ، وأنا بمدح فضائلهِ أفضلُ فاغر، فتهلَّلَ لمفارقتهِ، واستقبلَ قنابلَ قبلتهِ، وباتَ محتجباً عن الرِباطِ. لا تلجُ مقلتُهُ بينَ خلَلِ الرقدةِ والرباط، حتى أويْنا لطولِ قيامهِ، ورثينا لأفولُ منامِهِ، وأخذْنا نعجَبُ من بَدائع عاداتهِ، وعظمَ طلائع عبادته، ونقول: حينَ حسمَ حبالَ التهويم، وأعجزنا بوسيم ذلكَ التسويم، وأخرس الألسنَ بنثرِ نثرهِ النِظيم، يختصُّ برحمتهِ مَنْ يشاء واللهُ ذو الفضلِ العظيم، قالَ: وكنتُ لمّا ندَّد بمعانيهِ، وبرَّدَ بينَنا لطائفَ ما يعانيهِ، أَظُنُّ أنَّ أبا نصرِ جالبُ هذهِ الآياتِ، وناصبَ قَصَبِ هذهِ الراياتِ، وأنا فلا أتمَكّنُ من تدقيق النظر فيهِ، لاَزدحام حِزَقِ معتفيهِ، فلمَّا استبَاحَ مِنْ حلائلِ سَحَرهِ ما استباحَ، وهَزَمَ معسكرَ الصباح المصباحَ، ألفيتُ مَعَ صَيِّب نَصْرِنا، صاحبَ نَصْرِنا أبا نَصرِنَا، فأقبلتُ إليهِ إقبال العِشْرِ الشاربِ، على طيب مَشَارع المَشاربِ، فقالَ لِي: أراكَ عدْلتَ عن مَبْيَع المُجْتدي، واَعتدلتَ عند اعوجاج المعتدي، فقلتُ له: كيف لا وسيبُ سيرتك أجتدِي، وبسَبَب سَنَنِكَ أقتدِي، ومن يهَدِي اللهُ فهو المهتدي فقالَ: الحمدُ للهِ الذي اطلعَ في خضراء عِفتِك: غمائم جابتِهِ، ورفع على جباهِ معرفتِك عمائمَ إجابتهِ، وندَبَك إلى طريقِ طاعتهِ، وضرَبَكَ في قالبِ أهْل إطاعتهِ، فطوبَى لِمَنْ أخلصَ في قِصاصهِ، وتذكّرَ يومَ قِصاصهِ وفَكّر في خَلاصهِ، لإتقانِ إخلاصهِ، ثم إنه شكَرَ ذلكَ القال، وشَهَرَ شَبا مشرفيِّ قيلهٍ وقال: الوافر:

لقد ضَل أمرؤ أمسَى عكوفاً ... على رَاح الجَهالةِ والشموع

يبيتُ وطَرفُهُ سام طَموحٌ ... إلى خَوْدِ المطامع والشّموع

ويُصبحُ قلبُهُ في حَصْرِ حِرْص ... قَنيصَ نقيصَةٍ صِنوَ الوُلوع

ويمسي هَمهُ كَسْبَ المساوى ... بسُوقِ فسوقِهِ السَّاهي الوَلوع

ويَبرقُ عقلُهُ منَ برقِ تَوْقٍ ... إلى الرَّاووقِ مَمْقوت اللموع

ويْرفلُ تائهَاً في رِفْل ثَوْبٍ ... يَثوبُ بذمِّهِ الدَّنَس اللَّموع

وتجْذِبُ لُبَّهُ بُرةُ الأماني ... بكَفِّ رَجائهِ الوافي القُنُوع

فيا نُعْمَى لَهُ لو ظلَّ يَوماً ... بظِلِّ قَنوطِهِ عَيْنَ القَنوع

قال الراوي: فازددتُ بأبياتهِ حماسةً ونُسكا، وقَنِعْتُ بما يكون للرَّمْقِ مُراقَة ومسكاً ولمّا أسنَّ إنسانُ ليلنا، ومَنَّ المَلَلُ سِنانَ مَيْلِنا، أحضرْنا ما تخلَّفَ مِنْ خِواننا، وأظهرْنَا لَهُ ما استتَر في صِواننا، فأخرجَ مَريساً مِن جِرابهِ، الذي اضطبنهَ وجرى بهِ، وقالَ لنا: مُذْ طلّقتُها كرهتُ بَنيهَا، وكلفت بتَرْكِ مواكليها، فقالوا لَهُ: فخوّلْنَا ممّا لديك، لتحلَّ البركةُ بحلولِ يديكَ، فقَدّمَ لنَا وعاء مريسهِ، ولَمْ ندر أنهُ شَابَ حلاوةَ مريسهِ، بمرِّ مرمريسهِ، وحين حصلَ بالمِعَدِ، وشَمَل كُلَّ العَددِ، إنصرعَ كلٌّ علَى مُصلاهُ، واَرتفعَ قَطَنُ فقارهِ وصلاهُ، فمالَ إلى كَسواتنا، وتركنا بانحسار سوءاتنا، ثمَّ انسابَ بالبابِ انسيابَ الذُّباب، فكنتُ أَوَلَ مَنْ غُمِط حقُهُ، وقَصِدَ مَحْقُهُ، وأطربَهُ فِلْقُهُ، وصَحبَهُ دِلْقُهُ.

المقامة الثالثة والأربعون الدمشقية

<<  <   >  >>