للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلما رَثَيتُ لما نَالَهُ، وأثريتُ بقلقِ ما قالَه، أيقنتُ أنّها حبائلُ أبي نصرٍ ومضارُبهُ، ومخائلُهُ ومخالبُهُ، فقلتُ لَهُ: وجدت أخيذتَكَ من غير خِداج، ورددتُ سليبتك بألطف رواجٍ، ما الذي تصنعُ بَعَليلي، ومَنْ عظمُ إلَى بُرئهِ غليلي، فقالَ: أمرُج إليهُ على سبوحي ببوحِي، وأسرج له في كلِّ يوم مروحي بروحِي، قال: فاحتملتُ إبالة منَ الكبريتِ وجعَلتُ أسَيرُ سير الخِرِّيتِ، لتحصيل العفريتِ النِّفريتِ، إلى أن ألفيتُهُ مَتبهنساً بأسواقِها، متبختراً بين جُدْرِ المخاتلة ورواقها، تهز عِطفَهُ نشوِةُ الرحيقِ، وتبُزّ قلبَ طبيبهِ جحافِلُ الحريقِ، فنفحتهُ بنسيم السَّلام، ووددت أنْ أوُدعَهُ بطونَ السّلام، وقلتُ لهُ: إلامَ تهزأ بالذّكورةِ والمِكَسال، وتَدعسُ بمِدْعسُ مكركَ العَسَّالِ، وتنازلُ فِرَقَ الرِّعَال وتقابلُ ذوي الفَعالِ، بقبائح الفِعالِ، فأفٍّ لمن عذَرَكَ وعذرك، فما أغدَرك وأثبتَ غَدَرك، فقالَ لي: لِمْ ترجُمني بجنادل مقاذعتِكَ، وتَزحُمني بحَمَةِ مُقادِعتكَ فقلت: لاستلابِ ثيابِ مِعْوانِكَ، واجتلاب جيوش عَوانِكَ إلى أعوانِكَ، وكيف لا ولي خِلٌ أمين ألوفٌ، لا يعادِلهُ مثل ولا ألوف، وقد أشرفَ على التَّلَفِ، وأسرفَ في لِباس الأسَفِ، وقد آلى مَنْ خُنتَهُ واستلبتَ سرابيلَه وامتهنتَهُ ألاّ يجودَ بدوائهِ، أو تجود بردِّ قُمصهِ وردائِهِ، فقال لي: تاللهِ لقد سألتَ أيسرَ متيسِّرٍ، وحاولتَ فتحَ بابِ أملٍ غيرِ متعسِّرٍ، فامض معي إلى الخَانِ، لأشهِدَ عليكَ بقَبْضِها بعضَ الإخوانِ، فسرتُ معَه إلى خانِ معروفٍ بالأدناس، محفَوفِ بأجناس الأنجاس، فتركني ببابهِ وولَجَ، ثم مرجَ هُنيَّةً وخرج، وقد امتطَى حماراً أخشب كفنيقٍ أغلبَ، وخلفَهُ رجلٌ أطولُ من طالوتَ وأنذل من جالوت، فمالَ أبو نصر إلى سِرّاً، وحدَثني مستسراً، وقالَ، اعلمْ أنَّ صاحبي قد ضَللَ مفتاحنا بالسوق، وأنا مغِذٌّ إليهِ كالماء المدفوقِ، فتحدّثا إلى أنْ أعودَ، ولا تسأما القعودَ، ثم إنَهُ شمَّصَ حمارهُ ومر، واستقبل سبيلَ انسيابهِ واستمرَّ، قال القاسمُ بنُ جريال: فأخذتُ أحدِّثُهُ فازدلف وانحرفَ بحمارهِ وانصرفَ، وفاخرَ بما بمثلهِ يُفاخرُ، إذ كلٌّ منا يظنُّ أنَّ صاحَبُه الآخر، فقلتُ لَهُ: بعَدَ ما جَلَتْ جموع الصِّبْرِ الأريض، وانجلت الجَوْنةُ في حلة الإحريض إني لأظنُ أنْ قد قارنَ قريتُكَ الخَيبةَ، أو المفتاح عندَ بني شيبة، فقال لي: ما هذا النّباح، ومَن صاحبي والمفتاحُ، ويلكَ أيكونُ خدينَكَ، ويبيت قرينَكَ، وتنسُبُ صحبتَه إليَّ، أتحسبُ أن يَتَمِّ مُكركما عليَّ، وقد كفتُ حينَ ماس بأكهبهِ، وهاسَ بأغلبهِ، لالتماس أهَبهِ، قادراً على إطفاءِ لهَبهِ، وردِّهِ على عقبه ثم جذب بردني إلي وإلى المظالم، وأنا في صورةِ المظلوم والظالم، فقال الوالي: ذروه بمخيس المخاصمات، فقد ضاقَ الوقتُ عن المناسمات، ورد الظلامات، وفي غد أذيقه النَّكالَ الواصِبَ، والوَبالَ اللازِبَ، قال: فلّما حضرتُ دارَ الولايةِ، وشهرَ مُخاصمي مشْرَفيَّ الشكايةِ، سللْتُ حسام حكايةِ الطبيبِ، ونثلتُ ما بينَ ذيلِ ذَنَبِ القضيةِ والسَّبيبٍ، فتبّسَم الوالي تبسُّمَ المتعجب، ونَظر إلى جلسائهِ نظرَ المُعجِّبِ، ثم قال لي: قد غفرتُ فظيعَ هفوتِكَ، وسترتُ شنيعَ فوهتِكَ توجعاً لآفتِكَ، وإكراماً لعينِ معرِفتك، فأدِّ إليه ثمنَ الحمارِ، واجتنبْ بعدَها معاشرَة المِغْوار، قال: فوزنتُ الثمنَ، وخزنتُ الغَبَنَ، وعُدْتُ إلى المريض فوجدتُه قد درج، وفي مَلاءةِ المنيّةِ قد اندرجَ، فاغتذيت بِصابه وصابي، وبكيتُ على مُصابه ومُصابي، ثم لم يزلْ أهلُها عليَّ يعطفون، ولمحنَتي يتعطَّفون، وبالتّحَفِ إليَّ يَجْرُونَ، حتى ركبتُ طريقَ جَيرونَ.

المقامةُ التاسعةُ والعشرون الإسكندريَّة الخَيفاء

<<  <   >  >>