للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حدّث القاسمُ بنُ جريالٍ، قالَ: نزِعْتُ عن مُنازعةِ الجَليس، وقطعْتُ عُنُقَ رؤوس الأماليس، وبرَعتُ بالحمْدِ الحَبيس، مُذْ خَلعتُ لِبَاسَ التلبيس، فما فَتئْتُ أعجُم أعوادَ هذهِ المغارس، وأرجُمُ شَجراتِ المناظرةِ قبلَ الغَارس، وأسعَى بفِطْنَةٍ مُباهيةٍ، وأسبابِ هِمَم غيْرِ ساهيةٍ، حتى خَبَرْتُ نُخَبَ المُحاضر، وحضرتُ مُلَحَ المُناظر، فلما بَهرتْ بُهْرة خِيْرتي، وزَهرت زهره ذخيرتي، واشتهرتْ رُقومُ حَضارتي، وظهرتْ نجومُ مُحاضرتي، طفِقتُ أحاضرُ حَضَارِ وأعالجُ أخلاقَ العَنْس الحِضارِ، لأضمَّ إلى ذلك الضَّرَبِ نُغْبةً غراء، أو ألمَّ إلى ذلك الشَجرِ روضةَ غَضْراء، فلم أزل مدّةَ جَذْب المحرانِ وشدِّ القران، أعانقُ عقائلَ المُرَّان، حتى أنحفني الأمرّان المُرَّان، فلما استوى لديَّ الوَجَارُ والبَسابسُ، والمنارُ والمُنابسُ قادني إلى شيرازَ قائدُ القدرِ الرفيقِ، وصادني إلى صيدِها صائدُ شَرَفِ الأملِ الشفيقِ، فقدمتُها قدومَ نِحريرٍ، وولجتُها ولوج مَنْ ظفرَ بمعدن نضير، فَحينَ نفختُ بضرام الرحلةِ واحتويتُها، وطبختُ بها عَيرانةَ الأشر واشتويْتُها جعلتُ أهبُّ هبوبَ الزَّعْزَع الذاكي، وأشُبُّ شُبوب الضمر المذاكي، ولمّا آن انكِفاءُ المواكبِ، وحان طلوعُ مراكبِ الكواكبِ، ومال كلٌّ إلى سكنِه، وآل كلُّ محترف إلى مسكنِه، رمتْني حبائلُ الانحدارِ، ودهمتني بوادرُ الانكدارِ، وازدحمتْ ركائبُ الأكدارِ، ووحمتْ قتلي قَنابلُ تذكُّرِ الدار، حتى توسّدْتُ الحسامَ، وتمنّيْتُ لانسجام سام السَّيْلِ السامَ، فبينما أنا أفكر في هُجوم المنام، وأنظرُ في احتلاس سنسِن ذاك السّنام، إذ أقبلَ إليّ رَجُلٌ ارتجلتْ وصفه الصفاتُ، وضارعَتْ شِدّةً إعصافهِ الرياحُ العاصفاتُ، يَرْتَعُ في ربيع شبابهِ الزاهي، ويخطر في ميدانِ ميدان شُبوبه المتناهي، فالتفتَ نحوي التفات المريب، ولحظني بعين عقله الأريب، وقالَ لي: أراك مُتَّشحاً بشعار الاستشعار، وعلى صَدْرِ صَدَركَ صدار الاصفرارِ، وسيمياءُ الفضائلِ فائضةً لديْك، وكيمياءُ المكارم متراكمة عليك، فَقُمْ وفَّقَكَ الله إلى موائد مُتْرعةٍ، وعوائد مُمْرعةً وريْعٍ نماؤه مرحٌ، ورَبع فناؤهُ فسيحٌ، وغَمْر يغمَرُ بغَمرهِ المحرومُ، وقَرْم تقرَمُ لِلَثْم وَطْءِ مقرومهِ القُروم، لتشكرَ مَنْ لَهُ حجبْتُ، وإجلال إجلاله رجبتُ، وبمعازفِ معروفه اعتجبتُ، ولَوْ دُعِيْتُ لكُراع لأجبت، قال القاسمُ بن جريالِ: فجَذبني رَسنُ حُسن أوصافه، لا حَسَنُ وصفِ صحافه، وغرائبُ بَريْع هيئاته، لا رغائبُ ربيع هِباتِه، ثم إنِّي نهضتُ أغذو غذوه، وأحذو حذوَهُ، إلى أنْ وصلتُ إلى مرْبعهِ، واتّصلتُ بمشارق مَطْلعه، ولمّا بَرِقْتُ لرَوْقِ رواقه، وعسقت بما عشقت من مخائلِ أخلاقه، وحمدت شِنْشِنَةَ أبنائه، وشمِمْتُ نَشْرَ ألوَّة أبنائه، ألفيتُ أبا نصر المصريّ مِمَّن شَدَّ ظهرَه شِدَّة ذاك الدِعام، وضمَّ شملهْ ضِمامُ ذلك الإنعام، فتمطَّقْتُ لعذوبة إلماعه، ونقطت وجه عروس جَلوةِ اجتماعه، ثم أخذتُ أساله عن رب ذلك الفسطاط بعدَ رفع الدُّعابة والانحطاطِ، وأخبرتُه بما نشرَ حاجِبُهُ من الاشتراطِ، وضمنَ لي حاجبهُ منَ حلاوةِ الاستراط، فقال لي: إنّهُ مِمن يرفعُ عن محيّا الأمل براقعهُ، ويُعطِي خَرْقَ الخَلَقِ راقعهُ، ويوقعُ بُرّ برِّهِ مواقعَهُ، ونحن عندَهُ مقيمون، وعلى قَدَم هذه المِقَةِ قائمون، ما وصمنا مُذ عَصَمنا ولا سئمنا مذ رئمنا، قال: فبينما نحن نرتشفُ شَمولَ المخاطبة، ونلتحف بملاحف المداعبة، إذ دخلَ صاحبُ فنائنا، وجامع أعنائنا، فنهضنا إلى مصافحته، واستلام حجْر راحته، فحينَ رمقني بطرْفه، وصافحَ مطرفي كفّ مُطَرفه، قال لهم: أنَّى لكم هذه المنحةُ، ومن أينَ تسنَّتْ لمجلِسكُم هذه الملحةُ ومن الذي تفوحُ أراييحُ فصاحته، وتلوحُ مصابيحُ صباحته، فقال له أبو نصر: هذا الذي أدهشَ الغرباء، وناقشَ العرب العرْباء، وكَلَمَ المناسمَ، وكلم المباسمَ، واخترعَ المُكوسَ، وارْتضَعَ الكؤوسَ، وهتمَ القائلَ، وهزمَ القبائلَ، وجالس الولاة، وأخرسَ القضاةَ، وأعجزَ الغابرَ، وطرّزَ المنابرَ، وشرّفَ المدارسَ، وأحيا العلم الدارس، وادّرعَ السماحَ، وأعطى من استماح، وجانب الصماحَ، وكافح الرماحَ وماح، قال: فلمّا أفاضَ حياضَ امتداحه لديَّ

<<  <   >  >>