للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

روَى القاسم بن جريالٍ، قالَ: منيت مدّة مُقاصاةِ المَعان، ومُعاصاةِ الظعَان بسَهمْ هَم راقٍ، وسمِّ سَدرِ أرَق مالَهُ من رَاق، حتَّى امتطيتُ أيانق الفَرَق، وانثنيت عن نَمارقِ السَّرَقِ، وذَهَلْتُ عن بِساط البِسَاطِ، وشُغْلِتُ عَنْ وَطء بِساطِ الانبساطِ، فلّما اَنفجر فَلقُ قَلَقِ القَلْب الشَّفونِ، وانهدمَ راسخُ أساس نُعاس الجُفونِ، جعلتُ أضطربُ لهذا الرَّثمْ الثائرِ، وأجتذبُ أسبابَ السَّقَم بأشاجع يَدِ الجسدَ البَائرِ، فبينما أنا أعالجُ بعَالج السَموم السُّمومَ، وأمارجُ بَمارج تلكَ الهَموم الهُمومَ، إذْ خَطَرَ بخاطري المكدودِ، خِلٌّ خَال منْ قَرَن قرينهِ المَقدود، فحملني وعكة المللِ، وصَكة الغللِ، عَلى أنْ أطعَنَ درئةَ الحَنادس، بسنانِ الطلبِ المُداعس، وأظعنَ إلى أنْسِهِ الموانِس، لإماطةِ سرابيلِ الوَساوس، فصحِبْتُ وَصيفاً يُوجزُ بإسهابِ وَصْفِهِ الواصِفُ، ويعجِزُ عن إدراكهِ ريحُ المَراوح القاصِفُ، ولما ركعتُ لأبوابهِ، وأطعْتُ الأملَ في إيقاظِ بوّابهِ، تلقَّاني ببِشْرٍ شُموسهُ مشرقَة، وبِرٍّ كؤوسُهُ مُفْهِقة، وجَعَلَ يُذاكرني بنفائس أسمارهِ، ويُذكرُني محاسنَ سُمّارهِ، ثم قالَ لي بعدَ زاخرِ مُحادثاتهِ، وأواخرِ مُنافثاتهِ: أنَّى زهدتَ في دمشق ورُتْبتِها، والرُّبْوةِ ونُزهتِها، فهل لكَ في مُعاودةِ ورَيفِها، ومراجعةِ زَخاريفِها، وأنا لأوديةِ أوبتِكَ مَسِيْلٌ، ولوَجهِ وجْهَتِكَ خَدُّ أسيلٌ، وبِما يمونُكَ كَفيلٌ، واللهُ على ما نقولُ وكيلُ، وحينَ أدبرتْ كتائبُ الغَسَق وأقبلَتْ قبائلُ الشَّفَق، اتخذنا زاداً وبَكراً، وأموناً لبِكر بِكرينِ بِكرا فلم نزلْ نمتطي مَطَاهُما ونجتلي خرائدَ خُطاهُما، إلى أن امتطينا طنافسَ المربِّينَ، وورَدْنا ماءَ مَدَيْن نصيبين، وكنتُ سمِعتُ بطيب هِرماسها، وشَرَفِ ناسيها وباسِها، فقلتُ لهُ: أتحِب بأن نخيم بقبالها، لنُنظرَ ما وراء نقابها، ونصيف بعراصها، لنبصر ما تحت نصيف عفاصها، فأهنى المبرَّةِ أرْوجهُا، وأسنى المسرَّة سجْسُجها، وإذا اقترن عسيب المصيف، بعزة هشيم الخريف، وسَخَن باردُماء الخُفور، وبردَ بارد حر الحرور، نجذب عُثنون أموننِا، ونركَبُ متون رزوننِا، فقالَ لَي: يا بنَ جريال إياك والتعرُّضَ لهدم الحياةِ، ومَعْدِنِ الحُميّاتِ، فَلا تغرَّنَّكَ تلافيفُ الخضرِ، وحفيف الشَّجَر، وتصنيفُ الثمرِ، فماؤها سُمومٌ، وهواؤها مسموم، وظلّها يَحموم وجلها محمومٌ، واعتبِرْ بغزارةِ الأرْماس، ولا تنظر إلى نضارةِ الهِرماس، وهل هي عندَ ذي الفِكر الفَتيقِ، والراكبِ غاربَ وَهْم فهمهِ والفنيق، إلاّ كزينةِ الحُروبِ، وزنة زلازلِ الكُروب، وقد كنتُ أقمتُ بها حِيناً كافحتُ به الأينَ والوينَ، واخترتُ على ذلكَ الحِينِ الحَينَ، لما كابدتُهُ من منادمةِ الشدَّةِ، ومصادمة السُّدة، ومصاحبةِ العُدَّةِ، ومكافحةِ الرّعْدةِ، ولو لم أمنحْ بالإباقِ نفسي، لحللتُ غِبَّ حلولها رَمسي، فخرجْتُ منها وقد انقدَّ قلبي الوَجِلُ، وانهدَّ صبري الزَّجل، وأنا أرتجلُ: الوافر.

نصيبي من نصيبين افتكارُ ... شديدٌ شَابهُ شَظَفٌ كبارُ

فنوص مذْ سكنتُ بها سَليب ... كأنّ وسادتي إبَرٌ ونارُ

فلّما أنْ حللْتُ بها وخَدِّي ... نقي كالعَقيقِ لَهُ احمرارُ

تبَدّلَ بعدَ حمرتهِ بورس ... يلوحُ لناظري منهُ اصفرارُ

فزالَ الوَرْدُ من وَجْهي وولَّى ... ووُلّي بعدَهُ فيهِ البَهارُ

فلولا أنْ عَزَمْتُ على انتزاح ... سريع كادَ يعلوني البَوارُ

<<  <   >  >>