للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فأرَقْتُ كَؤوسَ النُّحوس، وفارقتُ لَبُوسَ الحَظِّ المَنْحوسِ وكسرتُ كؤوسَ الوُكوس، وهجرتُ عروسَ العُكوس، فلمّا عُمْتُ بمعارج أسواقها، وأقمتُ سُوقَ المَيْسُرةِ على ساقِها، ألفيتُها ذاتَ رُواءٍ وارفٍ، ولواءٍ وطارفٍ، يَصْبو إلى أركانها الوليدُ، ويَنْبو عَنْ مُناسمة سُكّانِها البَليدُ، فجعلتُ أقْصِدُ مُنادمةِ المدُاني، وأقصِدُ يدَ دِنانِ التداني، وكنتُ أيّامَ مُبادرةِ ثمارها، ومُذاكرة أذْمارها، أنْخرِطُ إلى حاكم المدينةِ، وأًلْتَقِطُ من نَثْر مآثرهِ المتينة، وكانَ مِمّنْ يَقْلِي لقاءَ البارح، ويقضِي بَيْنَ المُقيم والنازح، فبينما أنا عندَهُ في يوم مُسْهَوْهبِ الذَّائب، مُغْلَولبِ السَّحائبِ، إذ أقبلَ شَيْخ مُسْبل سِرارَ سَاجِه، مُرْهِف غِرارَ انزعاجه، نافضٌ رِفْلَ ثوبهِ العَمَرِ، قابضٌ غِلالةَ غلام كالقمرِ، فلمّا مثلا لدَى القاضي، ونثلا وفاضَ التغاضي، شهرَ الشيخُ لساناً كالِمخْصلِ الماضي، وقالَ: أيَّدَ اللهُ سُطَا سَيْفِكَ العمري، وشيدَ رَبْعَ عِزِّ عدلِك العُمَريِّ، ولا بَرحَ لِدانُ إنصافِك مُثقّفَ الأنابيب، وعنانُ انتصافِكَ مفوَّقَ الشآبيبِ، أنُهِي إلى وَلِيِّ إفضالِكَ، وجليِّ إجلالِكَ، أنَّني وَلدْتُ هذا الغلامَ، الماهرَ العُلامَ، وعَلَّمْتُهُ الكلام، وثقفتُهُ مُذْ قامَ حتَّى استقامَ، فحينَ شَبَّ في شِبابه ودبَّ لهَبُ هِبابه جَعَلَ يَحصِبُني بشَنيع مُنازعته، ويضرْبُني بقطيع مُقاطعتهِ، ويتحفني بامتنانهِ، ويَقْصِفُني بأهوية هَوانه، ويَخْذفُني بحصى حصانهِ، ويَحْذِفُني بعصا عِصيانهِ، ويُنشِقُني رياحَ عُقارِه، ويرشُقُني بقُذَذِ نقاره، ولم أزل مذ أتَّسقَ شفق بدره، وظهرَ ثَمَرُ نَدْرهِ، وراحَ للحِكمَ واشتغل، وفاح عَرفُ مَعْرفتهِ واشتلَ، وكَملَ شاربُهُ وبَقَلَ، ودَرَأَ دَرَنَ درايته ونقلَ، وصبا ركامُ ذِهْنهِ وصبَّ، واستيقظَ مِنْ سنَة وَهْنه وهبَّ، وعدنَ بدار الأدب وألب، وامتلأ صِدار صَدْرهِ بالدّرر واتلأب، أخِيط إذا طَرَّ، وألينُ إذا اقمطَرَّ، وأقترضُ إذا اضطرَّ، وأنقبضْ إذا اسبطرّ، وهو لا يَهْبِطُ عن ساحج عَجاجهِ، ولا يَعْدِلُ عن لاحب لَجاجه، ولَمْ يَكْفِهِ كُفْرُ فَيْض إفضالي، وطول مَدِّ طُلْيَةِ الطَّمَع إلى نضالي، حتّى عادَ يُطفِئُ وميضي، ويُرفئُ سفينةَ السَّرَقِ إلى قَريضي، وقَدْ تطرَّق هواهُ، وتدفَّق شرُّهُ وشَذَاهُ، إلى أنْ أفسدَ عليَّ بشاطئ هذا العبُور، شِعراً يُشابِكُ شناتِر الشِّعرى العَبورِ، فرفعَ منه ألفاظاً يسيرةً فأف لها سيرة، ووضَعَ عِوضها حقيرةً، فتُفٍّ لها جَريرةً، ولم يزلْ يا ذا الجُودِ، وفاطر الفَلَك الموجودِ، نسبةُ حَظِّي الموؤد، مع أمِّه الولود، نسبةَ الوالدِ إلى المولودِ، من طاعة هذا المولودِ، قالَ: فأقبلَ القاضي على فَتاهُ، وقالَ لهُ: إنِّي لأخالُهُ صادقاً فيما تَعيهِ، صابراً على ما يدَّعيهِ، فاتَّقِ اللهَ في مُناقشتهِ، واصبر على شدَّة شِرّةِ معاشرته، فقالَ له الغلام: أقسِم بِمَنْ أيَّدك بالعَلاءٍ، ورفَعها بعدد حروف الاستعلاء، وجعلَ بحارَ حِكَم الحكّام، في شامخ أحكام حِكَمِك كالرُّكام، أنَّني ما أطفأتُ وميضَهُ، ولا احتقرْتُ حَضِيضَهُ، ولا رفضتُ فريضَهُ، ولا انتحلتُ قَرِيْضَهُ وها هو مُدع أِّنَني ادعيت قصيده، وهدمت أبنية شعره ووصيده وليس الحال كما ادعاه وضمه وعاء سمعك ووعاه، وإنَّماَ سمح خاطري قبله، بشعر لو رآه الأخطل قبله، ولم أكنْ رفعتُ قَبْلُ قناعَهْا، ولا تدبَّرتُ اختراعها، فإنْ أحببت شيم شرر لددنا، وتبَلُّجَ صُبْح حَقَ أَحَدِنا، فمُرْنا بإيرادِ الدُّرَّتينِ، ليتضح لكَ اختلافُ كَلم الكلمتين، فقالَ لَهُ القاضي: تالله لقد وضعت محاسنَ سِراطِكَ وأنصفتَ برفع نَصيف أشراطِكَ، وهَرَفت بمدحِكَ على نشاطِكَ، وأرهفْتَ لهياج دَم ذمِّهِ شَباةَ مِشْراطِكَ فإن شِئْتَ أن تُجَلِّي فجلِّ، وإن رُمتَ أن تُصَلِّي فصَلِّ، فقالَ الغُلامُ أما عَلِمْتَ أنَّ البركة في الأكابرِ، ولا سيما المأخوذَةَ عن الكابرِ بَعْدَ الكابرِ، فقال الحَكمُ للشَّيْخ: أتْلُ شعْرَكَ لَدَيْهِ، وقَدْ خَصَّكَ بخلاص التقدّم عليهِ، فقالَ، وقد سعَّرَ لنزاله لهيبا، وجَرَّدَ لكفاحه لساناً مهيباً: الطويل:

<<  <   >  >>