للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال: فحين فَرَغَ من استجلاءِ عجائبه، وأفرغَ غَيْثَ غِمام غرائبه قالَ له القاضي: إنّهَا لأبياتُ أبيكَ، ولا أحابيكَ، ولم تُلْقِ سوى قيلٍ قليل فسلالا لكَ من سليلٍ، فقال الغلامُ: أقسمُ بمَنْ أتاحَ لنا قصدَ هذا الطريقِ، وأباحَ للمتمتع صيامَ أيام التَّشريق، إنَّها لفريدةُ نصاحي، ووليدةُ اجتراحي ونفيسةُ عفاصِي، وفريسة اقتناصي، غيرَ أن معنى ألفاظهما متغايرٌ، وغبار شدةِ مباينتهما متطايرٌ، وأنا - أعزَّكَ الله - أبيِّنُ حقيقةَ الحالِ، وأعيِّنُ عدمَ الانتحالِ، ثم إنُّه مضى في شرح القصيدتينِ، مُضِيَّ الفَرْقَدَيْن، فحينَ فتح أبوابَهُما، وأوضحَ أسبابَهما، قال القاضي للشيخ: ها هو قد بسطَ إليكَ عَشْرَهُ، وشرحَ لديكَ شِعرَهُ، فهل بقي بوفاضِكَ سِهام، أم تخلف بشهرَيْ ناجرِ احتجاجِكَ سَهام، فقالَ لهُ: اعلم - طَوَّلَ الله بِكَ ذَلاذِلَ الذيولِ القصار، وقلَّدَ عُنُقَ اقتداركَ بتقصار الانتصار - أنَّني جئتهُ حينَ تَمَّم إحكامَها، ونمَّر طخاريرَ الشكالة وركامَها فأنكرت عليهِ، ما أفضتِ القضيةُ إليهِ، وقلتُ لَهُ: تَعساً لك من سَروقٍ، وراكب عُجلزة عقوق، وتباً لكَ من ذي لَفْظ رخيم، وصاحبِ خيم وَخيم، أتهزأ - ويلك - بأشعاري، وترزأ بقواضب القِحةِ حلائلَ ابتكاري، ثُمَّ إنّهُ قَدْ حَصَل لك حال قُبْح هذِي الخِصال، واتِّصالِ خُمْصانَةِ هذا الوصال، مَعْ ما توخيتْ من جَودةِ هذا الارتفاقِ، صياغةُ الصِّناعةِ بالاتِّفاق، فكنتُ كمُشْتارٍ قَصدَ الصابَ، أو عابثٍ قذفَ حَجَراً فأصابَ، ثم إنِّي شَرَحْتُ لَهُ ما زعم أنَّهُ اقتضبَهُ، وقدحت في حدب قرا الجهْلِ الذي ارتكبَهُ، فحين حَذقَ ما شرحتهُ، وطفقَ يُتقن ما له أبَحتُهُ، قالَ لي: يا للعَجَبِ أتسبقُني لشرح ما به دَلَّهتُ، وتُناضِلُني بالكنائنِ التي بها تنبهت، فيا خيبة من يرجو روح أرواحكَ، والرجوعَ إلى مُراحكَ، والطيرورة بجناحك، وقد جرح بخناجر اطراحك، وها أنا قد أحضرتُهُ إليكَ، وعرضتُ عُروض انتحاله عليكَ، فنظر القاضي إلى الغلام وقال له: ما الذي تُجيبُ، وقد احتدَمَ بين حربكُما الوجيبُ، فقال له: إنْ كنتَ تُحِبّ بأنْ يُحَصْحِصَ لكَ الحقُّ ويَبينَ، ويلين لَدَيكَ الظالم ويستكينَ، فَمُرْهُ بأنْ نتساجلَ بالقَريض، أو بإغريض النثرِ الأريض، فقالَ له الحكمُ: قد سَمِعْتُ نظمكما، ووعيتُ وعظَكما، ولكِنْ تساجلا بنثرٍ يشاكلُ المنثورَ، ويشاكِهُ اللؤلؤَ المنثورَ، مشابهاً لهذي الصِّناعة، مماثلاً لها في عبارة البراعة، فلمّا سَمِعا كلامَهُ، وعلِما ما رامَهُ، تَلبَّبا وتناهزا، وتصلّبا وتبارزا، ثُمَّ شَحَذَ الشيخُ النِّصالَ الصِّقَالَ، وجالَ في حَلْبَةِ المُنافرةِ وقالَ: مُجانبة الجَنَفِ نجائبُ النَّجاء، فقالَ الغلام: ومجاورةُ النجَفِ مكاسبُ النّجاءِ، قالَ: طُوبَىْ لمن اصطبحَ في السماءِ، فقال: طُوبى ولو سبَّحَ في سماءِ السماءِ، قال: بئسَ الضّرَرُ بالبَدَن الحر، فقالَ: نَعَمْ ولكن لا يَضُرُّ الفَرَسَ الحَرُّ، قال: أولى الناس بالكرامة الحرُّ، فقال: وأحقُّ الأشياءِ بضربِ الكرامةِ الحُرُّ، قال: خَابَ مَنْ هَجَمَ عفافَه ولاطَ، فقال: وطابَ من هجم، أخلافَهُ ولاطَ، قالَ: السعيدُ مَنِ اعتبرَ بهزال الهلال، فقال: والجليدُ مَنْ ساورَ هلال الهِلالِ، وقالَ: لا تؤسِّد ذا اللَّبَنِ اللَّبِنَ، فقال: ولا تُعالج باللّبَنِ اللَّبِنَ، قَالَ: رَبحَ مَنْ تعلَّمَ خاءً وطاءً، فقال: وخَسِرَ من طلقه الأطيبان وطاء، قالَ: تَعِبَ مَنْ جوَّدَ ألفاً وباءَ، فقال: وأتعب مِن زَوَّدَ ألفاً وباءَ، قالَ: اعتيام البُكَرِ للغُرابِ، فقالَ: وقِوامُ القيام بالغراب، قالَ: الحظيُّ مَنْ كذَّبَ المسيحَ، فقال: والوفي مَنْ صَدَّقَ المسيحَ المسيح، قال: أسْوَغُ مشَروبنا الفَصيحُ، فقال: وأبلغُ أريبنا الفَصيحُ الفصيحُ، قالَ الراوي: فلمّا استدلّ القاضي بما استدعاهُ، وعَلَّ رحيقَ ما أبدعاهُ، قالَ لهما: لقد صحَّ عندي مُحالُ حكايَتِكما، وإبطالُ محاكمتِكما، فكلُّ منكما شَرٌّ من صاحبه، جارٌّ ذيلَ خَتْرِه على مساحبه، لكن أنا مِمَّنْ يُحْسِنُ الإيالة، ويستحسنُ لصَيْد الكرام الحِبالةَ، ثمَّ إنَّهُ قبضَ لهما قبضةَ منَ اللُجينِ، مُذْ وَجَدَهُما محوَجَينِ، وبتاج الفصاحة متوَجَيْن، وقالَ: تغمَّرا بهذي الإراقة، وتقنَّعا

<<  <   >  >>