للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال: فبينما أنا ذاتَ ليلةٍ بمجلس رَضيٍّ، مَعْ مُجالس مَرضيٍّ، ذي حَضْرةٍ حاضرة، ومُحاضرةٍ ناضرةٍ، إذا التفتَ إليَّ التفاتَ العاتبِ، ونظر نحوي نظرَ المعاتبِ، وقال لي: أراكَ غزيرَ التّقلْقُل عازماً على التنقُّلِ، كأنكَ سَبُعَةٌ مُشْبلةٌ، أو سحابةٌ مُسْبلةٌ، فاتّخذْني لسِرِّكَ خِزانةً، ولسِهام مَشورتِكَ كِنانةً، وأشركني فيما أصابك، لأدرأ أوصابكَ، وفيما هالَكَ، لأدفع أهوالكَ، فقلتُ لهُ: ليسَ بي ما يفتقرُ إلى تطول، أو يتوقَّف على إعانةِ متطوِّلٍ، ولا انطويتُ على ما يحتاجُ إلى كِتمانٍ، ويضطر إلى معاونةِ مِعْوانٍ، ولكنَّني أعرِّفُكَ ما لَهُ غَرَبْتُ، ولجرِّ جلابيبه تغرَّبْتُ، ثمَّ قلت له: اعلم أنَّني مِمَّنْ زَهِدَ في الغِيلِ، ورغبَ في الإرقالِ والتبغيل، وفارقَ النقادَ، وانقادَ للأدبِ مَعْ مَنْ انقادَ، وسايرَ الركائبَ، وبارز الكتائبَ، وجانبَ من غَمَطَ واعترَّ، وواصلَ مُنْ قَنعَ واعترَّ، حتى وُصِفت بنفاقٍ الأَلمعيَّةِ وإنفاقِ المَعمَعيّةِ، وعُرِفْتُ بينَ الرعيةِ، بهذِه اللوذعيَّةِ، وكنتُ معْ هذا الصّيتِ الصادحِ، والمثابرةِ على ثِنْي ثنايا المادح، كثيرَ المواكلِ، قليلَ التحفُظِ في المآكلِ، أبالغُ في مناهبةِ بيضةٍ، ولا أحذرُ من أذى حُمةِ هَيْضَةٍ، إلى أن صرتُ ذا جسدٍ مِمْراض، ممنو بنصال أمراض عِراض، يُعْجزُ جالينوسَ إخراجها، ويعسُرُ على اسقليبيوس إنضاجُها، أعِد فيها لمصائبِ الأوصاب، صنوفَ العصائبِ والعِصابِ فحينَ أحلولك يَقَقُ الِحيل وحالَ، واعجوجلَ وَجَلُ الَجللِ وجَالَ، جرَعْتُ ماءَ لسان حمل الجُمل فما رَدَعَ، وبلعت بنادق بزور البراعةِ فما نَقَعَ وسَرِطْتُ حَبَّ أيارج الأوارج فما اندفعَ، وسفِفْتُ سفوف سِرِّ الصناعةِ فما رجَعَ، وشربِتُ شرابَ فاكهةِ المفاكهةِ فما نَجَعَ، فعاهدتُ اللهَ أنَّهُ متى كفاني، وكفَّ بهذه الكِفَّةِ كُفوفَ أكفاني، أتركُ التغزُّلَ بدعدٍ وليلى، وأهجرُ لنَدمانِه منادمةَ أمِّ ليلى، فكمَّلَ إحسانَهُ، وقَصَّرَ أعنَّةَ السَّقَم وأرسانَهُ، وها أنا ساع إلى تحصيله وإيصالِ ضُحى محافظته بأصيلهِ، فقالَ لي: تالله لقد وردتَ إلى رُبى أربِكَ، وبردْتَ عينَ طلبِ مطلبِكَ، وفُزْتَ بنتاج ما أحبلت، وحُزْتَ حلاوة فَتح تاج الغَرَض وما أجبلْت، ولا ريب أنَّ بهذا البلدِ مَنْ يتيهُ على سُقراطهِ، ويستهلك قِنْطارُ بقُراطه، في غواربِ قيراطه، وأنا عندَهُ عينُ الوَجيهِ، وستظفرُ بما تؤمله وترتجيه، وفي غد تزورُهُ وتراهُ، وتصافحُ قدمُكَ ذُرى دَاره وذراهُ، فاقنَ لديهِ الانخضاعَ، واشكر ضَرْعَ مواظبتهِ والارتضاعَ، واعلَمْ بأن ذلكَ الإيضاعَ ما ضاع، قال الراوي: فشكرتُ وعدَهُ، وحمِدْتُ برقَ أنعامه ورعدَه، وبِت أترنَّحُ في حلل الاستماع، وأتمايَحُ من سُكْرَي سَكرنا والاجتماع، حتى كدت أطيرُ بقوادم العِقبانِ، إلى نَشْقِ نَشُوقِ فَيْض فضله واللَّبانِ، ولما نَشرَ ميتَ الانتشار، وانتشرَ جَناحُ الاستبشار، بادر مَعْ مَعْددتهِ، إلى إنجاز ريح أعجاز عِدتهِ، وذهبَ بي إلى عَطَنه، واقتادني بربقةِ لُطْفه وشَطَنِهِ، وحينَ أولجني وولَجَ، وحازَ حظِّي ذلك البلجَ وفَلَجَ، ألفيتُهُ المصريّ ذا العارفةِ، والفنونِ الوارفةِ، فقبّلتُ حَجَرَ مصاحبتهِ، وأقبلتُ على تقبيل راحتهِ، فلمَّا قمَّصني بصرَهُ، وبصُرَ بانصبابه مَنْ أبصرَهُ، بش كمن بُشِّرَ بأحبّائهِ، وتُقبّلتْ منائحُ حِبائه، وحِينَ جَلَتْ صِحابُه، وخَلَتْ رِحابه وأماطَ احتشامَهُ، وسَلَّ حُسامَ المُلَح وشامه، قالَ لي: يا بنَ جريال أَأنسيتَ مسابقة الأعْوَجيّةِ، بين ألالِكَ السَّروجيَّةِ، فقلتُ له: خلِّ ذكرَ ما أنقدَّ ولو قدَّ، ودَعْ حديثَ ما انهدَّ ولو هدَّ، وتسلَّ عمّا مضَى وقد نضا، وعد عمّا انقضى ولو قضى، فالكريمُ مَنْ عَفا ولو عفا، والحُلاحِلُ من طفا ولو انطَفا، ولما وقفَ على جليَّة مرادي، وعرَف طلوع أشعةِ أرآدي، قال لي: قسماً بمَنْ مَنَّ بالزلالِ الباردِ، ومَنَّ حَبْل الحَذَرِ عن فؤادِ الحَذِرِ الفاردِ، لقد استوكفتَ النُّغَبَ من حَبابها، والزُّبَدَ من عُبابها، وأتيت المعيشةَ من بابها، وحيثُ ترجو أن تعومَهُ ويذوقَ لسانُ إرادتِك طعومَهُ، فلأجعلنّكَ جالينوسَ الأوانِ، وأربياسيّوس دَست هذا الإوانِ، ليحسدَك كلُّ مَنْ يعيشُ، وينوشَكَ كلَّما

<<  <   >  >>