للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أومأ إلى بَلْدةٍ كثيرةِ الاشتغالِ، قليلةِ المِغَال، ضَيّقَةِ الوَجَارِ، جَزيلةِ الأحجارِ، وقالوا لي: يا هذا إنْ كنتَ صادقاً في مقالكَ، واثقاً من مُدَاومةِ إرقالكَ، فعليكَ بالوقوفِ عليها، وليَ ليتِ هامةِ اهتمامك إليها، لتعودَ سِباخُ فهْمِك مزروعة، وسرر أسرة سُروركَ مرفوعة، فإنْ أنتَ سَبَرْتَ أرْىَ هذهِ الخَلّيةِ المُشتارةِ، وتدبَّرتَ صُحُفَ صحة هذهِ الإشارةِ، حَمِدْتَ عاقبةَ إسراعِك، وفارقْتَ ضُروبَ مَضَضِ إيضاعِك، قالَ: فلما سعَيْتُ لمَقالِهم، وأثنيتُ على صفاءِ قالِهم، ونَظَرْتُ في مرآةِ التدبيرْ، ورشفْتُ شِهادَ إرشادهم بالكأس الكبيرِ، امتطيتُ الثّلوثَ وأرخيتُ الزِّمامُ المُثلوثَ، ثم مِلْتُ إلى التّرحالِ، ومواصلةِ الارتحالِ، ميلَ الكليتين إلى الطِّحالِ، ولم أزلْ ما بينَ شِقِّ تبغيل، وشَقّ غِيْلِ بعدَ غِيْلِ، وخَوْض بِرْغيل أمام بِرْغيلِ، أذيبُ بنَارِ السَّموم سنامَها، وأتركُ الرِّقْدة لمَنْ نامها، إلى أنْ أتيْتُ بدَّايةَ، وأضويتُ الجِنجَنَ والدايةَ، فواللهِ ما نَضبَ اضطرابُ الأرجاب، ولا خَضَبَ ذوائبَ الغَزالةِ حنَّاءُ الحجَابِ، أو وَلَجْتُها ولوجَ من ضَمَّرَ الآطالَ، وقصَّرَ سِرْبالَ بُوسهِ بَعْدَ ما طالَ، وبَيْنا أنا أتخيّرُ مبيتي، وأعْطِفُ لتحصيل عَلَفِ العيْرانةِ ليتي، ألفيتُ الهِزَبْرَ الِهبرزي، أبا نصر المِصريَّ، فحَيَّاني تحيةَ المُلتاح، وألقَى إليَّ ساعدَ مفتاح حَرَمهِ المُمتاح، ثمَّ قالَ لي: إلامَ تعيشُ عَيْش الأجُراءِ، وترغبُ عن مناظرةِ النُّظراء ويُصافحُ عُنُقُكَ نِجادَكَ وعَنقك أنجادكَ فقلتُ لَهُ: إلى أنْ يَنْصُلَ هذا الخِضابُ، ويجتمِعَ النّينانُ والضِّبابُ، فانثنى بي إلى مثَواهُ، وثَنَى جيدَ جَدِّ الجَدَد هيلمةُ هَواهُ، ثم قالَ لي: قَدْ رفَضْتُ لِكلالكَ السَّمرَ، وإنْ غَلَبُ السَّهرُ وقَمرَ، لعلمي أن لَيْثَ نَوْمكَ قدْ هَمَرَ، وغَيْثَ تَهْويمك قد انهمر، فَنَمْ آمِناً مِنْ نَفاقِ نفقتكَ، ونُفوق ناقتك، فأنَّهما في أماني، وبَيْنَ ظَهرانَي أعُبدي وغلماني، قال فأسلتُ لسِلمه سَليلَي وأملْتُ خَوْفَ سَلمهِ تَليلي، ثم إنّهُ أمرَ بإحضارِ زادِه، واقتداح زِنادهِ، وشىِّ شَائهِ، وإلحاق دَلْو جُودهِ برشائه، ولمّا نَزَعْنا النِّزاعَ، وحَلَّت سيولُ سلمِنا الأجزاعَ، أحلَّني من ظلًّه المَمدودِ، ورطْبِ مفاكهتهِ المَحْشُوِّ بالدُّودِ، فيما ألهاني برصْفه النّاصع، عن طِيْب أوتار المَناصع، ثُمَّ قالَ لي إنّي لأكرَهُ هَمْهَمْةَ اهتمامك وأعجب لملازمة زمم زمامك، وأنا راج بأن يزول رهبك، ويبوخ لهبك، فإلى أين مذهبك، وبأي المذاهب ذهب ذهبك، فقلت له: أما ذهاب ذهبي، ففي توقد لهبي، وأما غاية مذهبي فإلى حيثُ أتقن مذهبي، فقالَ لي: تالله لقد استريت ثروة ثوابك، وامتطيت صهوة صوابك، وجَريْتَ إلى الغاية وما ونيت، وحويت أعنّة المعاني وما وَهَيْتَ، وحفرتَ بئارَ الغرض وما أكديتَ، وأصبْتَ إذ نصبت هذهِ الكِفةَ فاكتفيْتَ، لتفخر بفنونِكَ الحِسَانِ، وتجمعَ بينَ القَبَاءِ والطيلسانِ، ومّعَ هذا الرأي الرزينِ، ووجْهِ هذهِ الوجهة الحَسَنِ التَّزيين، فمِنْ أينَ تروُم تحصيلهُ، وتَّضُمّ إلى حَبِّ هذي المحبةِ قصيلَهُ، وتَزُمّ إلى حِقِّ هذه الحركة فصيلَهُ، فذكرتُ لَهُ البلدةَ التي نَصَّ الركب عليها، وأشار بالتوجُّهِ إلى إليها، فالتفتَ إلي التفاتَ منْ رمُي ببُهتان، أو كُلّفَ كفَّ كَفّ تَّهْتان، ثم فَحَّ فَحيحَ العرْبَدِّ، وزمَجَرَ زَمْجَرةَ السِّلغَدِّ، وقال لي: قَسَماَّ بمَنْ دَبَّرَ أحكامَ الفُرقانِ، وقَدَّرَ التحامَ الأذقان، لقد كنتُ أراكَ ذا عقلٍ وارف، وفَضْل مُتضاعف، وحَزْم مستثير وفهمٍ كثيرٍ بثير، أو ما بلَغَك أنَّ بها منْ يَميلُ عن الأتَيّ، ويتعظَّم تعظّمُ الملك الأبيّ، ويتبجَّحُ بحَطِّ حقوقِ الجَحاجح، ويهرأ لقَنْص نَقْصهِ بالفصيح الراجح، ويتثَبّتُ لنَحْتِ الأصولِ العَليّةِ، تشبُّثَ أقْطيقُوسَ بالأعضاءِ الأصليّةِ، ومتى حلَلْت بَحَوْمةِ هذا الانهمارِ، ألفيتُهم مَعْ خِبْثَةِ خَاثر دِخْلتِهم والسِّمارِ، سَواسية كأسنانِ الحمارِ ما بهرَبهم ذو براعةٍ، ولاَ اَشتهر لهم أخو شَجاعةٍ، ولا طفح لهم مسيلُ وادٍ، ولا عَرِقَ لَهُم في جهادٍ، مُذ مَرَّ أذُن جوادٍ، وسَلْ يَوْمَ بها نُنيخُ

<<  <   >  >>