للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لأمرين أحدهما أنه كان بين المشركين في جزيرة العرب يهود وأهل كتاب يخالفونهم في الدين فما أرث ذلك بينهم حربا ولا أوقد لخصومتهم نارا على مثل ما كان بينهم وبين محمد والآخر أنه كان يوجد بين العرب حنفاء من مقاويل الخطباء وفحول الشعراء كأمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة فما كان هذا ليثير حفائظهم ولا ليقفهم موقف الخصومة منهم بل رضوا بتحنفهم ومخالفتهم لدينهم ودين آبائهم وزادوا على ذلك أن سجلوا كلامهم في التوحيد وشعرهم في التنزيه والتمجيد لأنهم لم يجدوا في هذا المنظوم والمنثور مثل ما وجدوا في القرآن من شدة التأثير وقوة الدفع ذلك الكتاب الذي جاءهم من فوقهم وكان له شأن غير شأنهم ورأوا فيه من مسحة الألوهية ما جعله روحا من أمر الله يتحرك به كل من سمع صوته ويهتز له كل من شام برقه ولا سبيل إلى وقف تياره وأثره إلا بالوقوف في وجهه والحيلولة بين الناس وبينه روى أبو داود والترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي" فتأمل كلمة "أن أبلغ كلام ربي" ولم يقل منعوني أن أتلو أو أعمل في نفسي بكلام ربي لأن التلاوة والعمل من غير استعلان بالقرآن ونشر له كان لا يؤثر على قريش كثيرا إنما الذي كان يحز في نفوسهم ويقض من مضاجعهم هو نشر هذا النور الذي يكاد يخطف الأبصار وإعلان هذا الكتاب الذي يجذب القلوب والأفكار وكان من تأثيره وفتحه وعزوة للنفوس ما ألمعنا إليه في إسلام عمر وسعد وأسيد!

وأما الفرض الثالث فينقضه ما هو معروف من أن العرب حين خوطبوا بالقرآن قعدوا عن معارضته اقتناعا بإعجازه وعجزهم الفطري عن مساجلته ولو أن عجزهم هذا كان لطارئ مباغت عطل قواهم البيانية لأثر عنهم أنهم حاولوا المعارضة بمقتضى تلك الدوافع القوية التي شرحناها ففوجئوا بما ليس في حسبانهم ولكان ذلك مثار عجب لهم ولأعلنوا ذلك في الناس ليلتمسوا العذر لأنفسهم وليقللوا من شأن القرآن في ذاته ولعمدوا إلى كلامهم القديم فعقدوا مقارنة بينه وبين القرآن يغضون بها من مقام القرآن وإعجازه ولكانوا بعد

<<  <  ج: ص:  >  >>