ثم إن هذه النكات البلاغية والاعتبارات الزائدة يختص بها اللسان العربي كما أن لكل لغة خصائصها.
وهذه الاعتبارات مع فصاحة المفردات هي مناط بلاغة الكلام والمتكلم وعلوم البلاغة على سعتها ووفرة مباحثها وحسن بلاء الباحثين فيها لا تكفي وحدها لتصل بدارسها إلى مصاف البلغاء وذوي اللسن والبيان بل غايتها أن يعرف بها أن هذه الحال تقتضي هذا الاعتبار وأن تلك الحال تقتضي ذلك الاعتبار وهكذا أما التطبيق والقدرة على الصياغة البلاغية فشأو بعيد يتوقف على أمور كثيرة منها الإلمام بظروف الكلام وأحوال المخاطبين ومنها الإحاطة بدرجة تلك الأحوال قوة وضعفا ومنها الإتيان بالخصوصيات المناسبة لهذه الأحوال والمقامات ومنها الذوق البلاغي أو الحاسة البيانية التي تكتسب بممارسة كلام البلغاء وأساليبهم وترويض النفس على محاكاتهم وتقليدهم وإلا فكم رأينا من مهرة في علوم اللسان لا يحسنون صناعة الكلام ولا يستطيعون حيلة إلى أقل درجات البيان فضلا عن أن يبرزوا في هذا الميدان.
والكلام البليغ يتفاوت تفاوتا بعيد المدى تبعا لدرجة توافر هذه الأمور فيه كلا أو بعضا ولم تعرف الدنيا ولن تعرف كلاما بلغ الطرف الأعلى والنهاية العظمى في الإحاطة بكل الخواص البلاغية سوى القرآن الكريم الذي انقطعت دونه أعناق الفحول من البلغاء في حلبته أنفاس الموهوبين من الفصحاء حتى شهدوا على أنفسهم بالعجز حين شاهدوا روائع الإعجاز ورأوا أن كلامهم وإن علا فهو طبعة الخلق أما القرآن فهو طبعة الخلاق!.