للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حكمة بالغة في هذا الاختيار

وهنا نقف هنيهة لنعلم أن حكمة الله البالغة قضت أن تكون معجزة الإسلام باقية بجانبه تؤيده وتعززه إلى قيام الساعة حتى لا يكون لأحد عذر في ترك هذا الدين الأخير الذي هو خاتمة الأديان والشرائع لذلك اختار سبحانه أن تكون معجزة الإسلام شيئا يصلح للبقاء فكانت دون سواها كلاما يتلى في أذن الدهر وحديث يقرأ على سمع الزمان وكان من أسرار الإعجاز فيه بلوغه من الفصاحة والبيان مبلغا يعجز الخلق أجمعين وكان من عدله تعالى ورحمته أن اللغة التي صيغت بها هذه المعجزة هي اللغة العربية دون غيرها من اللغات لأن اللغة العربية حين مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كانت قد بلغت لدى الشعب العربي أوج عظمتها من الاعتناء بها والاعتداد بالنابغين فيها والاعتزاز بالجيد منها وكان هذا الشعب العربي قد استكملت له حينذاك ملكة في النقد والمفاضلة تؤهله بسهولة ويسر للحكم على جيد الكلام وزيفه ووضع كل كلام في درجته من العلو أو النزول وترجع براعتهم في هذه الناحية إلى أنهم كانوا قد وقفوا عليها حياتهم والتمسوا من ورائها عظمتهم وعلقوا عليها آمالهم.

ولا يغيبن عنك أن هذا الشعب العربي كان مطبوعا أيامئذ على الصراحة في الرأي لا يعرف النفاق ولا الذبذبة وكانوا فوق ذلك شجعانا يأنفون الذل ويعافون الضيم مهما كلفتهم سجاياهم هذه من بذل مال وسفك دم فلما نزل القرآن لم يسع هذا الشعب الحر الصريح الأبي المتمهر في لغته إلا أن يلقي السلاح من يده ويخضع لسلطان هذا التنزيل وبلاغته ويدين له ويؤمن به عن إدراك ووجدان بعد أن ذاق حلاوته ولمس إعجازه وحكم بملكته العربية الناقدة وصراحته المعروفة السافرة وشجاعته النادرة الفائقة أن هذا الذكر الحكيم لا يمكن أن يكون كلام مخلوق من البشر ولا غير البشر إنما هو تنزيل من حكيم حميد

<<  <  ج: ص:  >  >>