[مسألة العذر بالجهل]
ثم قال رحمه الله: (فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يُخرجها من لسانه، وقد يكون جاهلاً بها) ، مثال هذه الكلمة: سب الله سبحانه وتعالى، فإن الفطر متفقة على قبح هذا الفعل؛ ولذلك سب الله سبحانه وتعالى من الكفر المخرج عن الملة، ولو جهل الساب أنه يكفر بالسب فإن ذلك لا يعفيه من الحكم بالكفر؛ لأن سب الله اتفقت الفطر على قبحه وأنه مُحرم، فجهل العبد بما يترتب على هذا المحرم لا يعفيه مما يترتب على الفعل، فإنه يكفر بفعله؛ ولذلك قال الشيخ رحمه الله: (وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بجهله) وهذا يحمل على الجهل بما يترتب على قول المحرم، وإلا فإنه يعلم أنها محرمة، وإلا لم يكن الله سبحانه وتعالى ليؤاخذه وهو لا يعلم حرمة هذا القول.
وقد استند بعض الشارحين لهذا الكتاب إلى هذه الجملة في القول بأن الشيخ رحمه الله يذهب إلى عدم العذر بالجهل! وهذه مسألة كبيرة، كثر فيها الكلام، وطال فيها الخلاف، وألفت كتب تنصر قول القائلين بعدم العذر، وكتب تنصر قول القائلين بالعذر بالجهل، والقول الفصل في هذه المسألة: أنه لا يقال بالعذر مطلقاً، ولا يقال بعدم العذر مطلقاً، بل يفصّل في الجهل، فمن الجهل ما يعذر به صاحبه، ومن الجهل ما لا يعذر به صاحبه، أما بالنسبة لعقيدة الشيخ رحمه الله في هذا، فله رحمه الله من النصوص ما يتبين من خلاله أنه لا يقول بعدم العذر مطلقاً، بل يقول بالعذر بالجهل في أحوال وأحيان، حتى في مسائل الاعتقاد، وسيتبين هذا من خلال نصوص نقرؤها عليكم من كلام الشيخ، ومن كلام طلابه وأتباعه على دعوته.
فمن ذلك ما ذكره الشيخ رحمه في الدرر السنية في أحد رسائله، قال رحمه الله: (وإن كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما؛ لأجل جهلهم وعدم من ينبههم) وهذا النص من كلام الشيخ، وهو يفيد أنه يعذر بالجهل مع وجود سببه، كأن يكون الجهل فاشياً في البلاد، ولا يوجد من ينبه ويدعو إلى التوحيد.
ومن كلام ابنه عبد الله في الدرر السنية أيضاً، قال رحمه الله في بيان موقف أهل الدعوة، وبيان موقف الشيخ رحمه الله، وكان كلامه في عدم تكفيره من يقول: يا رسول الله! أسألك، إذا كان جاهلاً بهذا؛ يقول رحمه الله: (ونعتذر عمن مضى لأنهم مخطئون معذورون لعدم عصمتهم من الخطأ) ، ثم قال: (فإن قلت: هذا فيمن ذهل ثم لما نبه انتبه، فما القول فيمن حرر الأدلة، واطلع على كلام الأئمة القدوة، واستمر مصراً على ذلك حتى مات -يعني على تجويز سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة-؟ قلت: -والقائل هو عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - ولا مانع أن نعتذر لمن ذكر، ولا نقول أنه كفر، ولا لمن تقدم أنه مخطئ، وإن استمر على خطئه؛ لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته بلسانه وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة، بل الغالب على زمان المؤلفين المذكورين -أي الذين اطلعوا على الأدلة ومع ذلك استمروا في تجويز هذه المسألة التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأساً، ومن اطلع عليه أعرض عنه قبل أن يتمكن ذلك في قلبه، ولم تزل أكابرهم تنهى أصاغرهم عن مطلق النظر في ذلك، وصولة الملك قاهرة لمن وقر في قلبه شيء من ذلك إلا من شاء الله منهم) .
وقال أيضاً: (ونحن كذلك لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه وعلمه وورعه وزهده، وحسنت سيرته، وبلغ من نصح الأمة ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة والتأليف فيها، وإن كان مخطئاً في هذه المسألة -وهي مسألة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة- أو غيرها كـ ابن حجر الهيتمي) الذي كان له عدد من الردود والكلام على بعض المسائل التي تكلم عنها شيخ الإسلام رحمه الله.
وقال عبد الرحمن بن حسن رحمه الله نقلاً عن شيخ الإسلام: (ونحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأحدٍ أن يدعو أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لا لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور كلها، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله) .
ثم قال: (ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين ما جاء به الرسول مما يخالفه) .
وقال عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: (والشيخ محمد رحمه الله -يقصد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر، حتى إنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور وغيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه، ويبلغه الحجة التي يكفر مرتكبها) .
هذه النصوص التي وقفت عليها -وغيرها كثير- تدل وتوضح موقف الشيخ رحمه الله وتلاميذه من مسألة التكفير، ومن مسألة العذر بالجهل، وأنه لا ينبغي الإطلاق بأن الشيخ لا يقول بالعذر بالجهل، بل المسألة من حيث أصلها فيها تفصيل، وذلك هو موقف الشيخ فيما يظهر من كلامه، فينظر في حال الواقع في الشرك، وعلى ضوء حاله يحكم عليه: هل جهله يعذر به أم لا يعذر به؟ وهذه المسألة قد أفردت بكتب، وتكلم عليها كثير من المؤلفين المتأخرين، ومن أراد الاستزادة فليرجع لهذه الكتب، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول بعدم التفريق بين مسائل الأصول ومسائل الفروع في مسألة العذر بالجهل، وله في هذا كلام كثير في مواضع كثيرة.
ثم قال رحمه الله: (وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما كان يفعل الكفار، خصوصاً إن ألهمك الله تعالى ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم) في قول الشيخ رحمه الله: (وعلمهم) بعض النظر، فإن الله سبحانه وتعالى قد ذكر عنهم بعد هذه الآية من كلام موسى عليه السلام أنه قال: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:٥٥] ، فهم ليسوا علماء، ولو كانوا علماء ما طلبوا إلهاً يعبد من دون الله، ففي قوله: (وعلمهم) بعض النظر، قال: (فحينئذ يعظم حرصك وخوفك على ما يُخلصك من هذا وأمثاله) .