للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بيان أن الدعاء هو العبادة]

ثم قال رحمه الله: (فبينها له بقولك: قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:٥٥] ) بينها له بما أنكر أنه عبادة، فإنه أنكر أن الدعاء عبادة، ونحن قد تقدم لنا ضابط العبادة فقلنا: العبادة هي كل ما أمر الله به ورسوله.

انظر إلى هذه الآية، قال الله جل ذكره: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} وهذا فيه الأمر بالدعاء، فثبت بهذا أن الدعاء عبادة.

واعلم -بارك الله فيك- أن الدعاء في القرآن يرد تارة ويراد به دعاء المسألة، ويرد تارة ويراد به دعاء العبادة، وهما متلازمان، فإذا ورد في موضع دعاء العبادة فإنه يتضمن دعاء المسألة، وإذا ورد في موضع دعاء المسألة فإنه يستلزم دعاء العبادة؛ ولذلك فسر كثير من أهل العلم الدعاء هنا بدعاء المسألة، وقال بعضهم: إن المراد هنا دعاء العبادة، ولا ضير إذ أن كلاً منهما يشمل أو يستلزم الآخر: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) فأمر الله سبحانه وتعالى بدعائه تضرعاً وانكساراً وخفيةً دون الجهر من القول.

ثم قال رحمه الله: (فإذا أعلمته بهذا فقل له: هل علمت هذا عبادة لله؟ فلابد أن يقول: نعم) لماذا لابد أن يقول: نعم؟ لأن العبادة هي كل ما أمر الله به ورسوله، وهذا أمر ظاهر لا إشكال فيه، ونحن نقول: كل ما أمر الله به ورسوله يشمل أمر الإيجاب وأمر الاستحباب.

ثم قال رحمه الله: (والدعاء مخ العبادة) هذا أيضاً في الاستدلال على أن الدعاء عبادة، وهذا الحديث رواه الترمذي وفيه ضعف، وأصح منه ما رواه الترمذي أيضاً بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة) ، ففسر النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء بالعبادة، وهذا يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة، فأما دعاء المسألة فهو: طلب جلب النفع أو كشف الضر أو دفعه، وأما دعاء العبادة فهو يشمل كل قربة يتقرب بها العبد إلى الله سبحانه وتعالى من صلاة أو زكاة أو حج أو صدقة أو غير ذلك من أنواع العبادات، فدعاء العبادة شامل لكل ما أمر الله سبحانه وتعالى به، وأما دعاء المسألة فهو طلب فعل الخير من الله سبحانه وتعالى أو دفعه.

ثم قال رحمه الله: (فقل له: إذا أقررت أنه عبادة، ودعوت الله ليلاً ونهاراً خوفاً وطمعاً ثم دعوت في تلك الحاجة نبياً أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره؟) فلا شك أنه سيقول: نعم، إذ أنه صرف العبادة لغير الله، فمن دعا نبياً أو ولياً أو ملكاً أو جنياً فإنه قد صرف نوعاً من العبادة لغير الله، وهذا هو الشرك الذي جاءت الرسل بالنهي عنه والدعوة إلى تركه والتخلي عنه.

ثم قال رحمه الله: (فلابد أن يقول: نعم.

فقل له: فإذا عملت بقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:٢] ، وأطعت الله ونحرت له هل هذا عبادة؟ فلابد أن يقول: نعم.

فقل له: فإذا نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلابد أن يقر ويقول: نعم) وهذا استدلال بما هو أظهر وأوضح؛ لأنه يناقش في مسألة الدعاء، فبعد أن قررنا أن الدعاء عبادة وأن صرفه لغير الله شرك قطعاً للمنازعة وقطعاً للإيراد، ضربنا في ذلك مثلاً واضحاً وهو الذبح، فإن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالذبح له دون غيره فقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:٢] فإذا عملت هذا، وأطعت الله وذبحت له، أليس هذا عبادة؟ فسيقول: بلى هذه عبادة، فقل له: فإذا نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلابد أن يقر ويقول: نعم، وإلا فإذا كابر وقال: لا، فلا معنى للشرك إذا لم يكن هذا هو الشرك؟ ولذلك فلابد أن يُقر ويقول: نعم.

ثم قال رحمه الله: (وقل له أيضاً: المشركون الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك؟ فلابد أن يقول: نعم) لأننا قد أجبنا على شبهته وبينا له من كتاب الله وسنة رسوله أن المشركين الذين نزل فيهم القرآن كانوا يعبدون الملائكة، وكان منهم من يعبد الجن، وكان منهم من يعبد الصالحين وغير ذلك.

وهذا هو الجواب على الشبهة الثانية.

ثم قال رحمه الله: (فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك؟) لم تكن عبادتهم في غير ذلك، إنما كانت عبادتهم في هذه الأشياء، (وإلا فهم مقرون أنهم عبيد الله وتحت قهره) ولذلك كان إذا وجه لهم السؤال: من يملك ويدبر ويخلق ويرزق؟ كانوا يقولون: الله.

ثم قال رحمه الله: (وأن الله هو الذي يدبر الأمر، ولكن دعوهم والتجئوا إليهم للجاه والشفاعة، وهذا ظاهر جداً) وليس بعد هذا الجواب جواب، فهو أظهر جواب في الرد على هذا المُلبِّس أو المُلبَّس عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>