للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إثبات شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام من الله يصاحبها نهيه عز وجل عن صرف الدعاء لغيره تعالى]

قال رحمه الله: [فإن قال: النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه الله، فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة، ونهاك عن هذا فقال: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:١٨] ) فإذا كنت تدعو الله أن يشفع نبيه فيك، فأطعه في قوله: (فلا تدعو مع الله أحداً) وأيضاً فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم، فصح أن الملائكة يشفعون، والأفراد يشفعون، والأولياء يشفعون، أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم؟ فإن قلت هذا، رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه، وإن قلت: لا، بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله] .

قوله رحمه الله: (فإن قال: النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه الله) الشبهة هي أنه زعم أن إعطاء الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم الشفاعة يُسوغ طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم كطلب أي شيء، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما كان حياً كان يطلبه الصحابة المال، والمال قد أعطاه الله إياه، وكذلك الشفاعة أعطاه الله إياها وأنا أطلبها منه.

والجواب على هذه الشبهة ما قاله الشيخ رحمه الله: (فالجواب أن الله أعطاه الشفاعة، ونهاك عن هذا) أعطاه الشفاعة ولا شك كما ثبت ذلك في الأحاديث الكثيرة، ونهاك عن هذا أي: نهاك عن سؤال الشفاعة من غيره فقال تعالى: (فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً) وهذا يشمل النبي صلى الله عليه وسلم ويشمل غيره، فدعاء غير الله تعالى وطلب الشفاعة منه نهى الله سبحانه وتعالى عنه في هذه الآية (فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً) و (أحداً) نكرة في سياق النهي، فتعم كل أحد، والدعاء الذي نهى عنه الله في هذه الآية هو دعاء العبادة المتضمن لدعاء المسألة، قال ابن تيمية رحمه الله: (كل دعاء ذكره الله سبحانه وتعالى عن المشركين لأوثانهم فإن المراد به دعاء العبادة المتضمن لدعاء المسألة) .

فقد نهى الله سبحانه وتعالى هنا عن الدعاء الذي كان يفعله الجاهليون وهو دعاء العبادة المتضمن لدعاء المسألة، فلا يجوز طلب الحوائج من غير الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز صرف العبادة لغيره سبحانه وتعالى، وأيضاً فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم.

هذا الوجه الثاني في الجواب على هذه الشبهة.

ثم قال رحمه الله: (فصح أن الملائكة يشفعون، والأولياء يشفعون، أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه) فسؤال الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أعطيها سبيل لسؤال الملائكة وسبيل لسؤال الصالحين الذين أعطوا الشفاعة، وبالتالي يقع العبد فيما وقع فيه المشركون الأوائل الذين عبدوا الملائكة والجن والصالحين بدعوى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣] ، وبدعوى قولهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:١٨] وقد تقدم بطلان هذا، فدل عدم جواز سؤال الشفاعة من الملائكة مع أنهم أعطوها ومن الصالحين مع أنهم أعطوها أنه لا يجوز سؤال الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم مع إثباتنا أنه صلى الله عليه وسلم قد أعطيها.

ثم قال: (وإن قلت: لا.

بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله) .

فيقر لنا بأنه لا تطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم مع إثباتها له وأنه قد أعطيها، وهناك وجه أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب على هذه الشبهة في القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة، فذكر رحمه الله أن الله سبحانه وتعالى أخبر أن الملائكة يشفعون ويدعون للمؤمنين {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:٧] إلى الآيات التي تليها، ففي جميعها دعاء للذين تابوا، والدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم، فإثبات دعاء الملائكة في هذه الآية لم يجعل سؤال الدعاء منهم مشروعاً، فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن القرون المفضلة أنهم سألوا الملائكة الدعاء، فدل ذلك على عدم جواز سؤال الدعاء أو الشفاعة ممن أعطيها، بل لا يُسأل إلا الله سبحانه وتعالى.

وبهذا تسقط هذه الشبهة.

وننتقل إلى الشبهة التي بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>