[الجواب على شبهة المشركين بأن الكفار كانوا يدعون الأصنام لا الصالحين]
ثم أجاب رحمه الله عن الشبهة الثانية فقال: (ولكن أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكر، فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو والأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:٥٧] .
إذاً: القوم الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلهم بل وقاتلتهم الرسل جميعاً هم قومٌ وقعوا في الشرك في الصالحين والأصنام وغيرها من أنواع الشرك الذين قال الله فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:٥٧] ، هذه الآية فيها بيان أن الذين يدعوهم المشركون هم قوم يتعبدون لله سبحانه وتعالى، ويطلبون القربة إليه، وهم الملائكة والأنبياء والصالحون، وقد فسر ابن مسعود رضي الله عنه اسم الإشارة (أولئك) في الآية فقال: الجن، ورجح ذلك الطبري، وذهب شيخ الإسلام وغيره إلى أن الآية تشمل الجن وغيرهم ممن دعي من الصالحين كالملائكة والنبيين وصالحي الجن، فالآية دالة على أن الذين بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعبدون الأصنام والصالحين والأولياء.
ثم قال رحمه الله: (ويدعون عيسى ابن مريم وأمه، وقد قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:٧٥-٧٦] ، واذكر له قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:٤٠-٤١] ، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:١١٦] ) .
وفي هذا إثبات أن الذين بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعبدون الجن والشياطين، ويعبدون أيضاً الملائكة وبعضهم يعبد عيسى ابن مريم.
ثم قال رحمه الله: (فقل له: أعرفت أن الله كَفَّر من قصد الأصنام، وكَفَّر أيضاً من قصد الصالحين، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) لكن المشبه الذي أشرب قلبه حب الشرك يُراوغ، [فإن قال: الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر، لا أريد إلا منه، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء، ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم.
فالجواب: أن هذا قول الكفار سواء بسواءٍ، واقرأ عليه قوله تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣] ، وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:١٨] .
واعلم أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم، فإذا عرفت أن الله وضحها في كتابه، وفهمتها فهماً جيداً فما بعدها أيسر منها] .
قال رحمه الله: (وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار، لا أريد إلا منه، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء، ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم) ومعنى هذا ملخصاً هو تكرار الخطأ في الشبهة الأولى، وهو ظن أن التوحيد الذي يُنجيه هو إقراره بأنه لا نافع ولا ضار ولا مدبر إلا الله، والإقرار بهذا لا يزيد عن كونه إقراراً بتوحيد الربوبية، ثم إنه فرق بين ما وقع منه وما وقع من المشركين بقوله: (إن المشركين يريدون منهم) ولسان حاله يقول: وأنا أريد بهم؛ لأنه قال: (ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم) فهو يريد بهم، وأولئك يريدون منهم أي: أن الكفار يسألونهم ويطلبونهم جلب المنافع ودفع المضار، وأما هذا فهو يقول: أنا أريد بهم يعني: يتوسل بهم لتحقيق مطلوبه.
والفرق بين الشبهة الأولى وبين هذه الشبهة: أنهم في الشبهة الأولى اعتمدوا على الجاه، وفي هذه الشبهة اعتمدوا على الشفاعة، هناك قال: إن الصالحين لهم جاه، وأنا مذنب ليس لي جاه، فهناك نظروا إلى الجاه، وهنا نظروا إلى الشفاعة.
ثم قال رحمه الله: (فالجواب: أن هذا قول الكفار سواء بسواء، فاقرأ عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣] ، وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:١٨] ) ، هذا عين ما وقع فيه المشركون، ومن المشركين من كان يطلب منهم ويقصدهم، ومنهم من كان يطلب بهم، ولا فرق في ميزان الشارع بين أن تطلب به أو تطلب منه، فإن الله سبحانه وتعالى نهى العباد عن جميع صور الشرك وأنواعه.
ثم قال رحمه الله: (واعلم أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم) فأنت إذا تأملت هذه الشبه الثلاث، وكان عندك معرفة بشيء من كتاب الله وشيء من هدي النبي صلى الله عليه وسلم تبددت هذه الشبهات، وصدق عليها قول الشاعر: وكل كاسر مكسور فليس فيها متعلق، وإنما هؤلاء -كما قيل- يتعلقون بأشعة القمر، فإنهم يبحثون عن أدنى متعلق يبررون به شركهم وما وقعوا فيه من عبادة غير الله، ويعتمدونه في مواقعة ما أشربت قلوبهم من الكفر بالله تعالى والإشراك به، وإلا فمن تدبر كلام الله سبحانه وتعالى يعلم أنه ليس فيها مستمسك، وليس عليها معول ثم قال رحمه الله: (فإذا عرفت أن الله وضحها في كتابه وفهمتها فهماً جيداً فما بعدها أيسر منها) .