للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شرك الأولين أخف من شرك المتأخرين]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وبعد: استطرد الشيخ رحمه الله في ذكر شبه المتأخرين، وبيان سوء حالهم، وأنهم أسوأ ممن سبقهم فيما وقعوا فيه من الشرك، فقال رحمه الله: [فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا: الاعتقاد هو الشرك الذي نزل فيه القرآن، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عليه، فاعلم أن شرك الأولين أخفُّ من شرك أهل زماننا بأمرين: أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء أوثاناً مع الله إلا في الرخاء وأما في الشدة فيخلصون لله الدعاء كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً} [الإسراء:٦٧] ، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:٤٠-٤١] وقوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:٨] ، وقوله: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:٣٢] .

فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه، وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون الله تعالى، ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له، وينسون ساداتهم، تبيّن له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهماً جيداً راسخاً؟ والله المستعان] .

هذا أول ما فارق به المشركون المتأخرون سلفهم المتقدمين، وذلك أن المتقدمين كانوا إذا اشتد بهم الكرب، وادلهمت عليهم الخطوب، وأحدقت بهم الأزمات، وتوالت عليهم الكوارث والكروب؛ توجهوا إلى الله سبحانه وتعالى في الطلب، ونسوا ما كانوا يدعون من دونه كما هو ظاهر الآيات التي ساقها الشيخ رحمه الله في الاستدلال على ذلك.

وأما حال المتأخرين فهم أسوأ منهم إذ أنهم يدعون الله وغيره في الرخاء، فإذا اشتد بهم الكرب ونزلت بهم المصائب وحلت بهم الكوارث سألوا غير الله سبحانه وتعالى، وتضرعوا إليه، وفزعوا إلى الأولياء والصالحين المزعومين يسألونهم كشف الكربات، وإزالة الكوارث والنوازل؛ وما ذلك إلا لقلة علمهم بالله سبحانه وتعالى، وشدة كفرهم به سبحانه وتعالى، فأرباب الشرك وأهل الكفر من المتقدمين كانوا أحسن حالاً من هؤلاء الذين اشتد بهم الكرب فلجئوا إلى المخلوقين، وهذا أول ما فارق به المشركون المتأخرون سلفهم المتقدمين.

قال رحمه الله: [والأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله، إما أنبياء، وإما أولياء، وإما ملائكة؛ أو يدعون أشجاراً أو أحجاراً مطيعة لله ليست عاصية، وأهل زماننا يدعون مع الله أناساً من أفسق الناس، والذين يدعون هم الذين يُحِلُّون لهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك، والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به] .

هذا هو الأمر الثاني الذي فارق به المشركون المتأخرون سلفهم المتقدمين، وهو أن المتأخرين يصرفون العبادة للأولياء والصالحين، ويصرفونها أيضاً للفسقة والفجرة والكافرين، فبالنظر إلى الذين أشرك بهم الأولون يُعلم أنهم كانوا يصرفون العبادة إما لملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون أو أنبياء أو صالحين، أو يصرفون العبادة إلى أحجار وأشجار مطيعة لله سبحانه وتعالى ليست عاصية، وهذه الأحجار والأشجار مطيعة طاعة قهرية فهي مربوبة لله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤] فهي تعبد الله سبحانه وتعالى عبادة قهرية وعبادة خاصة كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في قنوت الأشياء وسجودها لله سبحانه وتعالى.

وأما هؤلاء فإنهم يصرفون العبادة إلى أمثال أحمد البدوي الذي لم يُعرف عنه صلاح ولا علم ولا تُقى ولا عبادة ولا ورع، بل المعروف عنه والمشهور عنه خلاف ذلك، ويصرفون العبادة إلى أشياء كثيرة لا يعرف لها في الأمة لسان صدق، ولا يعرف لها عند الله سبحانه وتعالى جاه أو منزلة، وما ذلك إلا بتلاعب الشيطان، فإن الشيطان تلاعب بهؤلاء، والغالب أن الذين يدعونهم المتأخرون هم الذين يُحلّون لهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك، فكأنهم افتضحوا فاصطلحوا، فهؤلاء المعبودون رضوا من أولئك بالعبادة، وهؤلاء العابدون رضوا من معبوديهم إباحة الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة.

ثم قال رحمه الله: (والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده، ويشهد به) ولا شك، وإن كان الكفر ملة واحدة، وهم جميعاً مندرجون تحت قول الله تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:٧٢] إلا أن الشرك والكفر درجات، فهذا أخف من ذاك، وإن كانوا يتفقون في العقوبة الأخروية.

<<  <  ج: ص:  >  >>