فإذا كان مقصود الشارع رفع الإحراج والمشقة عن تكاليفه، فإن مقصود مقصوده هنا، هو المداومة على العمل، والتوازن في أداء الواجبات دون إفراط في بعض والتفريط في بعض آخر.
وقد أطال النفس في بيان هاتين العلتين، في ترتيب منطقي بديع، مع دفع الشبهات والاعتراضات المفترضة. كل ذلك مع النصوص المكثفة الحاسمة في الموضوع.
ثم انتقل في -المسألة الثامنة- إلى حكم نوع آخر من "المشقة"، وهي مشقة مخالفة الهوى:"ذلك أن مخالفة ما تهوى الأنفس شاق عليها، وصعب خروجها عنه" فقرر أن الشرع لا يقيم وزنا، ولا يعطي اعتبارًا لهذه المشقة لأن "الشارع إنما قصد بوضع الشريعة إخراج المكلف عن اتباع هواه، حتى يكون عبد الله. فإذا مخالفة الهوى ليست من المشقات المعتبرة في التكليف، وإن كانت شاقة في مجاري العادات".
ثم عاد ليفصل القول -في المسألة الحادية عشرة- في المشقة التي يقصد الشارع رفعها عن المكلفين، والتي لا يقصد إلى رفعها، وإن كان أيضًا لا يقصد حصولها؟ وضابط ذلك هو أنه:"حيث تكون المشقة الواقعة بالمكلف خارجة عن معتاد المشقات في الأعمال العادية، حتى يحصل بها فساد ديني أو دنيوي، فمقصود الشرع فيها: الرفع على الجملة.
وأما إذا لم تكن خارجة عن المعتاد، وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها من الأعمال العادية، فالشارع وإن لم يقصد وقوعها، فليس بقاصد لرفعها أيضًا، والدليل على ذلك أنه لو كان قاصدًا لرفعها لم يمكن بقاء التكليف معها، لأن كل عمل عادي أو غير عادي يستلزم تعبًا وتكليفًا على قدره، قل أو جل".
ثم نبه على أمر هام في المسألة، وهو أن المشقة التي تستحق أو لا تستحق التخفيف، إنما تقاس وتقدر بالنظر إلى العمل الذي يستلزمها ومدى ضرورته ومدى أهميته. فلا نقيس -مثلًا- المشقة في ركعتي الضحى "وهي نافلة" كما نقيسها في صلاة الصبح "وهي من آكد الصلوات"، ولا مشقة هاتين "وهي خفيفة غالبًا"