وفيما يلي، يعرض علينا الشاطبي الحالات الثمانية التي حصر فيها التعارضات بين مصالح الناس، والتي تولي -بعد ذلك- تفصيلها، وتقعيد قواعدها، ورسم ضوابطها:
"جلب المصلحة ودفع المفسدة إذا كان مأذونًا فيه على ضربين: "أحدهما" أن لا يلزم عنه إضرار بالغير و"الثاني" أن يلزم عنه ذلك، وهذا الثاني ضربان: "أحدهما" أن يقصد الجالب أو الدافع ذلك الإضرار كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه، وصحبه قصد الإضرار بالغير. و"الثاني" أن لا يقصد إضرار بأحد.
وهو قسمان "أحدهما" أن يكون الإضرار عاما، كتلقي السلع، وبيع الحاضر للبادي، والامتناع من بيع داره أو فدانه وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع أو غيره. و"الثاني" أن يكون خاصا، وهو نوعان: "أحدهما" أن يلحق الجالب أو الدافع -بمنعه من ذلك- ضرر، فهو محتاج إلى فعله، كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع بغيره، أو يسبق إلى شراء طعام. عالمًا أنه إذا حازه استضر غيره بعدمه، ولو أخذ من يده استضر. و"الثاني" أن لا يلحقه بذلك ضرر. وهي على ثلاثة أنواع: "أحدها" ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا أعني القطع العادي١، كحفر بئر خلف باب الدار في الظلام، بحيث يقع الداخل فيه بلا بد، وشبه ذلك. "والثاني" ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرًا، كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبًا إلى وقوع أحد فيه، وأكل الأغذية التي غلبها أن لا تضر أحدا، وما أشبه ذلك. "والثالث" ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لا نادرًا، وهو على وجهين: "أحدهما" أن يكون غالبًا، كبيع السلاح من أهل الحرب، والعنب من الخمار وما يغش به ممن شأنه الغش، ونحو ذلك. "والثاني" أن يكون كثيرًا لا غالبًا، كمسائل بيوع الآجال. فهذه ثمانية أقسام".
ثم شرع في تفصيل أحكامها وقواعدها واحدًا بعد الآخر، بعقلية تشريعية مدهشة. وقد ترددت كثيرًا في تقديم -أو عدم تقديم- تلخيص لذلك. وبعد أن
١ يقصد بالقطع العادي، ما يمكن تخلفه، ولكن في حالات نادرة جدا، يقابله القطع العقلي، وهو ما يستحيل تخلفه أبدًا. فإن تخلف لم يعتبر قطعيا.