للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وما لنا نذهب بعيدًا، والشاطبي نفسه يسعفنا بتعليلات أكثر تفصيلًا في الأحكام التي نعى هو على غيره تعليلها وذكر حكمها، يقول: "وذلك أن الصلاة مثلًا: إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم١. فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجه إليه، فإذا أحضر نية التعبد أثمر الخضوع والسكون. ثم يدخل فيها على نسقها، بزيادة السورة خدمة لفرض أم القرآن، لأن الجميع كلام الرب المتوجه إليه. وإذا كبر وسبح وتشهد فذلك كله تنبيه للقلب، وإيقاظ له أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه والوقوف بين يديه. وهكذا إلى آخرها. فلو قدم قبلها نافلة كان ذلك تدريجًا للمصلي، واستدعاء للحضور، ولو أتبعها نافلة أيضا لكان خليقًا باستصحاب الحضور في الفريضة.

وفي الاعتبار في ذلك أن جعلت أجزاء الصلاة غير خالية من ذكر مقرون بعمل، ليكون اللسان والجوارح متطابقة على شيء واحد، وهو الحضور مع الله فيها بالاستكانة والتعظيم والانقياد. ولم يخل موضع من الصلاة من قول أو عمل، لئلا يكون ذلك فتحًا لباب الغفلة ودخول وساوس الشيطان"٢.

فهذا توسع ظاهر، يقدم عليه الشاطبي، في تعليل تفاصيل أكثر العبادات تعبدية، وهي الصلاة. فكيف يقال -رغم هذا- إن "المناسب" في العبادات مما لا نظير له وأن الأصل في العبادات عدم التعليل.

نعم، سنجد ولا شك أحكامًا في العبادات مما يصعب تعليله تعليلًا معقولًا ظاهرًا، من قبيل ما أشار إليه الغزالي في قوله "مبنى العبادات على الاحتكامات، ونعني بالاحتكام: ما خفي علينا وجه اللطف فيه، لأنا نعتقد أن لتقدير الصبح بركعتين، والمغرب بثلاث، والعصر بأربع سرًا٣، وفيه نوع لطف وصلاح


١ هذا تعليل آخر من تعليلات الطهارة.
٢ الموافقات، ٢/ ٢٤.
٣ أي أن لهذه التقديرات سرا، ولطفًا من الله، في وضعها.

<<  <   >  >>