للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كما أنه يؤيد -من جهة أخرى- ما كنت بصدد بيانه قبل قليل، وهو أن الأحكام المعللة والمعقولة المعنى في مجال العبادات، كثيرة جدا، وأن القليل منها هو الذي قد يتعذر تعليله تعليلًا واضحًا. فإذا أضيف هذا إلى الأصل السابق، ظهر بجلاء أكثر، أن الأصل في الأحكام الشرعية -العادية والعبادية- هو التعليل. وأن ما خرج عن هذا فهو الاستثناء.

وقد اعترف الجويني بأن ما ليس له معنى معقول نهائيا من الأحكام الشرعية "يندر تصويره جدا"١.

وهذا ما يوافق نصوص القرآن التي نصت على تعليل الدين كله، والشريعة كلها، دون تفريق ولا استثناء، من ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ٢. قال العضد الإيجبي: "وظاهر الآية التعميم، أي يفهم منه مراعاة مصالحهم فيما شرع لهم من الأحكام كلها، إذ لو أرسل بحكم لا مصلحة لهم فيه لكان إرسالًا لغير الرحمة، لأنه تكليف بلا فائدة، فخالف ظاهر العموم٣.

على أن ما ورد في الأحكام الشرعية، العبادية والتعبدية، من تحديدات، وهيئات، ومقادير، مثل: عدد الصلوات وعدد الركعات في كل صلاة، والجهر والإسرار، ومثل جعل الصيام شهرًا، وفي شهر معين، وكونه يبتدئ من طلوع الفجر وليس من طلوع الشمس مثلًا، ومثل هذا بعض تفاصيل الحج، وكذا أحكام الكفارات ومقاديرها، ومثل هذا أيضًا العقوبات المحددة، المسماة بالحدود، من حيث نوعها ومقاديرها.

أقول: هذه التحديدات -أو التقنيات إن شئنا- هي من الحاجات الملحة للحياة العامة واستقامتها. إنها -فضلا عما في التزامها من معاني التعبد والخضوع-


١ البرهان، ٢/ ٩٢٦.
٢ سورة الأنبياء، ١٠٧.
٣ شرح مختصر ابن الحاجب، ٢/ ٢٣٨، "نقلا عن أصول الفقه الإسلامي، للدكتور وهبة الزحيلي، ٢/ ٧٦٢".

<<  <   >  >>