للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والدكتور البوطي -في هذا - يقرر أمرًا في غاية الخطورة، وفي غاية المصادمة للبدهيات، ومع ذلك فإن دليله عليه ليس إلا "ما تقرر" من عدم وجود حسن وقبح ذاتيين!

أما من الذي قرر هذا؟ وكيف تقرر؟ ولماذا؟ وما نصيب هذا التقرير من الصحة؟ فكل ذلك ليس من المصلحة إثارته، لأنه سيشوش على ما يقرره هو أيضًا!

وأما أن ما قرره -وما استدل به أيضًا- يصادم البدهيات فقد أحس به مقرروه الأوائل. فهذا إمام الحرمين الجويني يقول: "ولسنا ننكر أن العقول تقتضي من أربابها اجتناب المهالك، وابتدار المنافع الممكنة، على تفصيل فيها -وجحد هذا خروج عن المعقول- ولكن ذلك في حق الآدميين. والكلام في مسألتنا مداره على ما يحسن أو يقبح في حكم الله تعالى١.

ويبدو لي أن أبا المعالي -بهذا القول- قد خرج عن طوق النظرية الأشعرية، والتحق -أو كاد- بالماتريدية. فقد اعترف -وبغض النظر عن حكم الشارع- بوجود مهالك، ووجود منافع. وأن العقول تدركها وتميز بينها، فتقتضي اجتناب الأولى وابتدار الثانية، وهذا هو معنى كون الحسن والقبح ذاتيين عقليين.

ولئن كان إمام الحرمين، قد اضطر -اضطرارًا- إلى هذا القدر من الاعتراف بالتحسين والتقبيح، فإن عددًا من الشافعية -وهم أشاعرة طبعًا- قد عرفوا بمخالفتهم الصريحة للنظرية الأشعرية، وانتصروا لإثبات الحسن والقبح الذاتيين، والتحسين والتقبيح العقليين. قال ابن القيم: "واختاره من أئمة الشافعية الإمام أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير، وبالغ في إثباته، وبنى كتابه "محاسن الشريعة" عليه، وأحسن فيه ما شاء. وكذلك الإمام سعيد بن على الزنجاني، بالغ في إنكاره على أبي الحسن الأشعري القول بنفي التحسين والتقبيح، وأنه لم يسبقه إليه أحد. وكذلك أبو القاسم الراغب، وكذلك أبو عبد الله الحليمي، وخلائق لا يحصون"٢.


١ البرهان، ١/ ٩١.
٢ مفتاح دار السعادة، ٢/ ٤٢.

<<  <   >  >>