ومما هو جدير بالتأمل في هذا الصدد، ما أورده الأستاذ الزرقاء نفسه، مباشرة بعد كلامه السابق، حيث قال:"ثم ظهر الاجتهاد الشافعي بإنكار نظريتي الاستحسان والمصالح المرسلة".
فلست أدري لماذا لم يكن للتأخر الزمني دوره -هذه المرة- في التقدم العلمي؟ ولماذا لم تتقدم "الصياغة الفنية" لنظرية الاستصلاح، خاصة أن الإمام الشافعي هو صاحب الريادة المعروفة في هذا المجال؟
والحقيقة: أن مستقر الإسلام الأصح الأتم، كان هو المدينة، هي مستقرة ومنطلقة: رواية ودراية وتطبيقًا، وبعد العصر النبوي، كانت فترة الخلفاء وسنة الخلفاء الراشدين، هي النموذج الأمثل الذي ينبغي أن يستلهم ويقتدي به، وينهج على نهجه، وكل هذا احتضنته المدينة، واستوعبه أهل المدينة وعلماء المدينة أحسن استيعاب. ثم كان النقل إلى مختلف الجهات الإسلامية. ونشأ علماء مسلمون هنا وهناك، وتلقوا ما شاء الله أن يتلقوا من تلك الوراثة المدنية، واستوعبوا منها، واجتهدوا في فهمها، واجتهدوا في تطبيقها، واجتهدوا في الاهتداء بها والقياس عليها، فتفاوت قربهم من الصورة المثلى، بتفاوت قرائحهم وعقلياتهم ومدى استيعابهم للصورة المثلى في كلياتها وجزئياتها، إلى ظروف ومؤثرات عديدة.
وإذا كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله، قد نفذ بصره إلى إدراك المقاصد المصلحية لشريعة الإسلام، فعبر عنها بكثير من تعليلاته، وعبر عنها بفكرة الاستحسان، فإن ذلك لم يخل من غموض، على الأقل في توضيح ذلك للآخرين، وقد ظل الاستحسان الحنفي يكتنفه هذا الغموض زمنا غير قصير، حتى عسر على الأحناف أنفسهم الاتفاق والاستقرار على تعريف واحد واضح له. وهذا الغموض هو ما أدى بالإمام الشافعي رحمه الله إلى مهاجمته الشديدة للاستسحان، بينما نجده يتقبل أشكالًا من الاستصلاح، مما يجعله -على كل حال- آخذًا بالمصلحة، على تحفظ وتردد في التوسع فيها توسع مالك والمالكية.