للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإذن، فنظرية المصلحة في مذهب مالك، لم ينضجها التأخر الزمني، بل أنضجها التقدم الزمني، أي أنها في الأصل نظرية ناضجة في شريعة الإسلام وأبرزها أكثر التطبيق النبوي، ثم ازدادت بروزًا واتساعًا عندما اشتدت الحاجة إليها بعد توقف الوحي، وذلك من خلال سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. وأبرزهم في ذلك عمر.

ثم كان للتأخر الزمني، والبعد المكاني، عن هذه الصورة النموذجية أثرهما في التشويش والتضبيب. وبلغ ذلك إلى حد أن بعض المالكية أنفسهم أنكروا حجية المصلحة المرسلة، كالباقلاني، وابن الحاجب!

والاستحسان الحنفي إنما هو قبس من نظرية المصلحة في الشريعة الإسلامية. ولست أعني -بالضوررة- أنه مأخوذ من مذهب معين أو اجتهاد معين، بل الظاهر أنه فهم أوتيه الإمام الأعظم، مباشرة لنصوص الشريعة وأحكامها ولكنه -كما أشرت- جاء أقل وضوحًا واتساعًا مما كان عليه الشأن، عند إمام المدينة.

فالاستحسان عند مالك، يعني شيئًا واحدًا واضحًا محددًا: هو رعاية المصلحة. وما رواه عنه أصحابه من أن "الاستحسان تسعة أعشار العلم"١ لا يمكن أن يعني إلا مراعاة المصلحة في الأحكام الاجتهادية. وفي هذا يقول ابن رشد "الحفيد": "ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال: هو الالتفات إلى المصلحة والعدل"٢.

فإذا كان الاستحسان -في نظر الإمام مالك- يمثل تسعة أعشار الاجتهاد الفقهي، وكان معنى الاستحسان هو مراعاة المصلحة والعدل، فهذا يعني أن على


١ نسبة هذا القول إلى الإمام مالك متداولة في كتب المالكية. وقد ذكره الشاطبي مرارًا وأورده ابن حزم بسند متصل إلى مالك، فقال: روى العتبي محمد بن أحمد، قال: ثنا أصبغ بن الفرج قال: سمعت ابن القاسم يقول: قال مالك: تسعة أعشار العلم الاستحسان، قال أصبغ بن الفرج: الاستحسان في العلم يكون أغلب من القياس. ذكر ذلك في كتاب أمهات الأولاد من "المستخرجة". الإحكام: ٦/ ١٦.
٢ بداية المجتهد ونهاية المقتصد: ٢/ ١٥٤.

<<  <   >  >>