هذا وليس علميا البتة إطلاق أحكام عامة على مجموع التاريخ العربي والمعالجة السببية لدى كلية المؤرخين العرب المسلمين لكثرتهم، واختلاف الموضوعات التي بحثوا فيها، وتنوع مناهجهم في العمل وأساليب عرضهم، وقد ثبت في أذهان الباحثين نقد ابن خلدون لسابقيه لا سيما حول ابتعادهم عن تقصي السبب، ولعل مفهومات ابن خلدون العميقة والمثلى للكتابة التاريخية وأهدافها وصفات المؤرخ ومنهجيته، هي التي أوقعته بتلك الأحكام "العامة" القاسية، لأنه في مقدمته التاريخية كان قمة في التأريخ العالمي" لا "التأريخ العربي" فحسب، فهو أول من بحث جمعا وتفصيلا في عوامل العمران المختلفة، ودخل في فلسفة التاريخ بمضمونها الواقعي الدنيوي.
كان أسلوب الصياغة والأداء عند العرب في معظم الأحوال بلغة عربية بينة وبليغة، ومصورة بوضوح ما يريدون تباينه، دون إدخال التأنق الأدبي فيه، إلا أنهم استعملوا السجع وضمنوا كتاباتهم الشعر والرواية القصصية وفي الواقع كان أسلوب كل مؤرخ عربي يتباين عن الآخر، إلا أن أسلوب الأغلبية كان واضحا وبينا يحيط بالحقيقة التاريخية ويبرزها.
وهكذا نخلص إلى القول: إن منهج البحث التاريخي عند المؤرخين العرب المسلمين كان منهجا علميا في خطوطه العامة، وإن العلم الحديث يسجل لهم أنهم أول من ضبط الحوادث بالإسناد والتوقيت الكامل، وأنهم مدوا حدود البحث التاريخي، ونوعوا التأليف فيه، وأكثروه، إلى درجة لم يلحق بهم فيها من تقدمهم أو عاصرهم من مؤرخي الأمم الأخرى، وأنهم أول من كتب فلسفة التاريخ والاجتماع وتأريخ التاريخ، وأنهم حرصوا على العمل جهد طاقتهم بأول واجب المؤرخ وآخره "وهو الصدق في القول والنزاهة في الحكم" وبذلك يكون المؤرخون العرب هم الذين وضعوا الأصول الأولى "لمنهج البحث التاريخي العلمي الحديث" الذي بدأ ناضجا في أوروبا في القرن "التاسع عشرا"، وهم الذين تركوا بتلك الأصول أثرهم في مؤرخي أوروبا في مطلع العصور الحديثة، الذين شرعوا بدورهم ينهجون في الكتابة التاريخية طريق النقد والتمحيص والتدقيق١.
١ ليلى الصباغ. دراسة في منهجية البحث التاريخي، ط٨، مرجع سبق ذكره ص٣٩-٧٨.