إلا صنف الكتب الحديثية، ورحل في سبيل ذلك المراحل العديدة، وقطع الأسفار البعيدة إلى الأمصار الإسلامية المختلفة. فتجمع لديهم ثروة عظيمة من الأحاديث، وتعددت أمامهم طرقها وأسانيدها وبسبب ذلك انكشف لهم ما كان خافيا من اتصال بعض الأسانيد، أو انقطاعها وبإمعانهم النظ في متون الأحاديث، وفحصهم الدقيق عن قيمتها ظهر لهم الدخيل من غير الدخيل منها، فكانت نهضة مباركة في جمع الحديث، وثورة عنيفة في وجوه الوضاعين غير أنهم لم يصلوا إلى هذه المرحلة الحاسمة، والنصر المبين على أعداء الإسلام الألداء إلا بشق الأنفس. فهذا أبو داود السجستاني في رسالته إلى أهل مكة يقول ما خلاصته: كان سفيان ووكيع وأمثالهما يجتهدون غاية الاجتهاد فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتصل إلا من دون ألف حديث١.
فإذاكان الحديث الواحد المستوفي الشرائط، لا يمكن الحصول عليه إلا من بين الف حديث سواه من ضعيف وموضوع. ظهر لنا ما كان يكابده هؤلاء الأئمة من جهد جهيد، حتى أبلوا ذلك البلاء المبين، وفي الحق أن علماء الحديث أبانوا عن علم غزير في الحديث، ورجاله ومتونه، وأسانيده كا أظهروا حيطة شديدة في الأخذ والتحمل عن الشيوخ. فأنت تراهم لم يكتفوا في تصحيح الحديث بدين الراوي وأمانته، وكثرة حفظه حتى يكون مع ذلك ضابطا عارفا بما يتحمله من الحديث غير متساهل فيه.
فهذا مالك بن أنس يقول: "لا يؤخذ العلم عن أربعة، ويؤخذ ممن سوى ذلك: لا يؤخذ عن سفيه، ولا يؤخذ من صاحب هوى، يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذ في أحاديث الناس، وإن كان لا يتهم