مع نباهة وذكاء عظيمين. سمع المأمون موطأ مالك واطلع على كثير من أقوال حكماء الفرس، وفلاسفة اليونان مما عني بترجمته المنصور والرشيد، ولما تولى الخلافة أمر بترجمة كثير من كتب الروم، وبذلك في ذلك الأموال الطائل، حتى أصبح عصره أزهى عصور العلم في خلافة بني العباس، إذ أقبلت الأمة على العلم بنهم كثير وشوق عظيم لا سيما، وقد وجدوا خليفتم يقدر العلم، ويرفع من شأن العلماء.
جاء المأمون فوجد العلماء فريقين متنافرين، ووجد الخلاف على أشده بين أهل الحديث، وأصحاب الكلام، فرأى أن يجمع العلماء من المتكلمين والفقهاء، وأصحاب الحديث، ويعقد لهم مجالس للمناظرة أملا في أن يتفقوا على رأي فيما يلقيه عليهم منالمسائل المختلف فيها، ثم يحمل الجميع على ما اتفقوا عليه، وبذلك تجتمع الأمة كلها على كلمة واحدة في الدين لا سيما فيما يرجع إلى العقائد، ومباحث الإمامة.
عقد المأمون المجالس للمناظرة، والمحاورة فكانت النتيجة أن كشفت المناظرات الكثيرة، والمناقشات الحادة التي كانت تدور بين يدي المأمون عن رأيه في بعض المسائل الخلافية، وأنه كان ينحاز إلى المعتزلة في بعض آرائهم لا كلها. وكان مما وافقهم عليه القول بخلق١ القرآن. وقد أعلن رأيه بذلك سنة ٢١٢هـ على زعم أنه إذا أعلن رأيه للعلماء وفقهاء الأمة، فإنهم يستجيبون لرأيه، ويرتضونه تبعا له. ولكن الأمر جاء على عكس ما كان ينتظره المأمون. قد تكلم الناس فيه ورموه بالابتداع، وتغالى بعضهم فحكم بكفر من يرى خلق القرآن، ومن هذا الحين أخذ الكلام بين المتكلمين، وأهل الحديث يقوى، والنزاع يشتد حتى جاء
١ أول من قال بخلق القرآن الجعد بن درهم في سنة نيف وعشرين ومائة، ثم جهم بن صفوان، ثم بشر بن غياث "تأنيث الخطيب ص٥٣".