وقد ضاق ذرعا بأمثال هؤلاء الجهال كثير من أعلام المحدثين، فشعبة يقول فيهم:"كنت إذا رأيت رجلا من أهل الحديث، يجيء أفرح به فصرت اليوم ليس شيء أبغض إلي من أن أرى واحدا منهم"، ويقول ابن عيينة:"أنتم سخنة عين لو أدركنا وإياكم عمر بن الخطاب لأوجعنا ضربا".
ويقول عمرو بن الحارث -شيخ الليث- في أمثال هؤلاء:"ما رأيت علما أشرف وأهلا أسخف من أهل الحديث". وقال محمد بن سهل بن عسكر: وقف المأمون يوما للأذن، ونحن وقوف بين يديه إذ تقدم إليه غريب يده محبرة. فقال: يا أمير المؤمنين صاحب حديث منقطع به، فقال له المأمون: أيش تحفظ في باب كذا فلم يذكر فيه شيئا، فما زال المأمون يقول: حدثنا هشيم وحدثنا الحجاج بن محمد، وحدثنا فلان حتى ذكر الباب، ثم سأله عن باب ثان فلم يذكر فيه شيئا، فذكره المأمون ثم نظر إلى أصحابه فقال:"يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام ثم يقول: "أنا من أصحاب الحديث"، أعطوه ثلاثة دراهم"، وإذا علمت أن هذه المثالب والطعون موجهة إلى قوم من المتكسبين بالحديث الأدعياء في الرواية، علمت أن أعداء الإسلام في كل عصر ليسوا على حق في توجيه هذه الطعون إلى الأئمة الأعلام، والحفاظ العظام الذين كشفوا عن الدخيل، وميزوا الحق من الباطل، وجاهدوا في سبيل السنة وصونها حتى أبلوا في ذلك أحسن البلاء مما قرأته عنهم، وما ستقرؤه إن شاء الله.
هذا ما يقال في أهل الحديث، أما أهل الكلام فإننا نجدهم يرتفعون بالعقل، ويذهبون بسلطانه إلى أقصى حدوده حى ساقهم ذلك إلى التطرف في تأويل النصوص بما يمجه الذوق السليم، ويدفعه الطبع المستقيم كل ذلك محافظة على ما اعتقدوه من الآراء.