أخذ المعتزلة في هذا العصر في بحث كتب الفلسفة اليونانية وغيرها، وتشبعوا من علوم الحكمة، فحكموا آراءهم في الدين، وطبقوا ما فهموه من هذه الدراسات على الكتاب والسنة، وانفتح عليهم باب التأويل والطعن في الأخبار، حتى لم يسلم منهم بعض الصحابة رضي الله عنهم، وليتهم وقفوا عند هذا الحد، ولكنهم أرادوا العامة على سلوك طريقتهم، واعتقاد آرائهم واستعدوا عليهم الخلفاء، كما رأيت والعامة كما ترى لا تهضم هذه الفلسفات، ولا تفهم الكم والأين وغيرهما من المقولات، قد كان يكفيهم مناظرة علماء الجمهور من أئمة الحديث والفقه في مجالس المأمون، وغيرها ليظهروا سلطان العقل، ويقيموا البراهين الساطعة على خصومهم، ثم بعد ذلك يقولون لهم معا على الرسول إلا البلاغ، ولا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.
ولكن المعتزلة انتهزوا قربهم من الخلفاء، وأخذهم بزمام الوزارة والقضاء، فانتقموا من أهل الحديث ومن جمهور الأمة ما أمكنهم الانتقام، ولم يبالوا بسفك الدماء الطاهرة البريئة، ومن عجيب أمرهم أنهم يختلفون على أنفسهم في مسائل الدين اختلافا عظيما، لكن لم يصلوا في خصومتهم إلى عشر معشار ما فعلوه مع أهل الحديث.
هذا أحمد بن أبي دؤاد يحكم بكفر من لم يقل بخلق القرآن، ثم يستعمل سلطة الوزارة، فيأمر بفداء الأسرى من قال منهم بخلق القرآن، أما من لم يقل بذلك فإنه يترك أسيرا في أيدي الكفار؛ لأنه في نظره غير مسلم فلا يستحق الفداء.
أفما كان الأجدر بهم -لو كانوا يريدون الخير للإسلام وأهله- أن يتحدوا مع أهل الحديث، ويكون الجميع جبهة في الدفاع عن الدين