للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

غرةٍ وغفلةٍ (١)، فينبغي للعاقل أن يجاهد أمله وهواه؛ فإن ابن آدم مجبولٌ على الأمل، وورد أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "لا يزال قلب الكبير شابًا في حب الدنيا وطول الأمل" (٢).

وقال ابن عمر: رآني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأنا أصلح خُصًّا، فقال: "ما هذا؟ " قلت: خُصٌّ لنا نصلحه، فقال: "ما أرى الأمر إلا أقرب من ذلك" (٣).

فعلم أن قصر الأمل أصل كل خير، وطوله أصل كل شر؛ فان من لا يقدِّر في نفسه أنه يعيش غدًا. . لا يسعى لكفايته ولا يهتم بها، فيصير حرًا من رق الحرص والطمع والذل لأبناء الدنيا، ومن يقدِّر أنه يعيش عشر سنين مثلًا. . يصير عبدًا لهذه الأوصاف الذميمة، ولا يكفيه شيءٌ من الدنيا، ولا يملأ عينه وبطنه إلا التراب؛ كما جاء في الحديث (٤).

(وخذ من صحتك لمرضك) (٥) أي: اغتنم العمل حال الصحة؛ فإنه ربما عرض مرضٌ مانعٌ منه، فتقدَم المعاد بغير زاد.

(ومن حياتك لموتك) أي: اغتنم ما تلقى نفعه بعد موتك ما دمت حيًا؛ فإن من مات. . انقطع عمله، وفات أمله، وحق ندمه، وتوالى حزنه وهمه، فاستسلفْ منك لك، واعلم: أنه سيأتي عليك زمانٌ طويلٌ وأنت تحت الأرض، لا يمكنك أن تذكر اللَّه عز وجل، فبادر في زمن قوَّتك وحياتك، واغتنم فرصة الإمكان لعل أن تسلم من العذاب والهوان (٦).


(١) قال بعضهم: (من الطويل)
خليليَّ ولَّى العمر منَّا ولم نتب ... وننوي فعال الصالحين ولكنَّا
فحتى متى نبني قصورًا مَشِيدةً ... وأعمارنا منا تُهدُّ وما تُبنى
(٢) أخرجه البخاري (٦٤٢٠)، ومسلم (١٠٤٦) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(٣) أخرجه بن حبان (٢٩٩٦)، وأبو داوود (٥٢٣٦)، والبخاري في "الأدب المفرد" (٤٥٦)، والحديث عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما، فلعل ما هنا وما في "سنن ابن ماجه" (٤١٦٠) سهو أو سبق قلم، فليتنبه. والخص: بيت يصنع من خشب وقصب.
(٤) أخرجه البخاري (٦٤٣٩)، ومسلم (١٠٤٨) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه.
(٥) قوله: (وخذ من صحتك لمرضك) معناه: اعمل أعمالًا صالحةً في حال صحتك؛ ليكتب ذلك إذا عجزت في حال مرضك، ويكون قوله: (إذا مرض العبد أو سافر) نتيجة هذا، غايته أن هذا فيه زيادة قوله: (ومن حياتك لموتك. . . إلخ) فتأمل. اهـ هامش (ج)
(٦) قال بعضهم: (من الوافر)
إذا هبت رياحُك فاغتنمها ... فعقبى كل خافقةٍ سكونُ =

<<  <   >  >>