كتابتها، بل قيل إنه نهاهم عن كتابتها كما مر بما فيه، ومع ذلك كان يأمرهم بالتبليغ لما علموه وفهموه، وعلمنا أن عادة الناس قاطبة فيمن يلقى إليه كلام المقصود منه معناه ويؤمر بتبليغه أنه إذا لم يحفظ لفظه على وجهه وقد ضبط معناه لزمه أن يبلغه بمعناه ولا يعد كاذباً ولا شبه كاذب، علمنا يقيناً أن الصحابة إنما أمروا بالتبليغ على ماجرت به العادة: من بقي منهم حافظاً على وجهه فليؤده كذلك، ومن بقي ضابطاً للمعنى ولم يبق ضابطاً للفظ فليؤده بالمعنى. هذا أمر يقيني لا ريب فيه، وعلى ذلك جرى عملهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته.
فقول أبي رية «لما رأى بعض الصحابة.. استباحوا لأنفسهم» إن أراد أنهم لم يؤمروا بالتبليغ ولم يبح لهم أن يرووا بالمعنى إذا كانوا ضابطين له دون اللفظ، فهذا كذب عليهم وعلى الشرع/ والعقل كما يعلم ما مر. وتشديده صلى الله عليه وسلم في الكذب عليه إنما المراد به الكذب في المعاني، فإن الناس يبعثون رسلهم ونوابهم ويأمرونهم بالتبليغ عنهم. فإذا لم يشترط عليهم المحافظة على الألفاظ فبلغوا المعنى فقد صدقوا: ولو قلت لابنك اذهب فقل للكاتب: أبي يدعوك. فذهب وقال له: والدي- أو الوالد - يدعوك، أو يطلب مجيئك إليه، أو أمرني أن أدعوك له، لكان مطيعاً صادقاً، ولو اطلعت بعد ذلك على ما قال فزعمت أنه عصى أو كذب وأردت أن تعاقبه لأنكر العقلاء عليك ذلك. وقد قص الله عز وجل في القرآن كثيراً من أقوال خلقه بغير ألفاظهم، لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحد المعجز، ومنه ما يكون عن لسان أعجمي، ومنه ما يأتي في مواضع بألفاظ وفي آخر بغيرها، وقد تتعدد الصور كما في قصة موسى، ويطول في موضع ويختصر في آخر. فبالنظر إلى أداء المعنى كرر النبي صلى الله عليه وسلم بيان شدة الكذب عليه، وبالنظر إلى أداء اللفظ اقتصر على الترغيب فقال «نصر الله امرءاً سمع منا شيئاً فأداه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع» جاء بهذا اللفظ أو معناه مطولا ومختصرا من حديث ابن مسعود وزيد بن ثابت وأنس وجبير بن مطعم وعائشة وسعد وابن