للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المنظر الخامس: في أن العلماء - من بين البشر - أبعد عن السياسة ومذاهبها ١

والسبب في ذلك: أنهم معتادون النظر الفكري والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن أمورا كلية عامة ليحكم عليها بأمر العموم لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات وأيضا يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر ولا تصير بالجملة إلى مطابقة وإنما يتفرع ما في الخارج عما في الذهن من ذلك: كالأحكام الشرعية فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب والسنة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار في العلوم العقلية التي تطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها فإنها خفية ولعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر إذ كما اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور فتكون العلماء - لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض - إذا نظروا في السياسة أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا ولا يؤمن عليهم ويلحق بهم أهل الذكاء والكيس من أهل العمران لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني والقياس والمحاكاة فيقعون في الغلط والعامي السليم الطبع المتوسط الكيس لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها وفي كل صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختص به ولا يعدي الحكم بقياس ولا تعميم ولا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه كالسابح: لا يفارق البر عند الموج قال الشاعر:


١ الفصل في المقدمة صفحة ١٣٦٥ – ١٣٦٧.

<<  <   >  >>