للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مطلب: في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر ١

اعلم: أن عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة ولا بلغة أهل الجيل بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا وهي عن لغة مضر أبعد فأما: أنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر يشهد له ما فيها من التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحنا وهي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم فلغة أهل المشرق: مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب وكذا أهل الأندلس معهما وكل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عما في نفسه وهذا معنى اللسان واللغة وفقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا العهد وأما: أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل فلئن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم - كما قلناه - وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب ومن الملكة الثانية التي للعجم فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليه يبعدون عن الملكة الأولى واعتبر ذلك في أمصار إفريقية والمغرب والأندلس والمشرق أما إفريقية والمغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم وصارت لغة أخرى ممتزجة والعجمة فيها أغلب - لما ذكرناه - فهي عن اللسان الأول أبعد وكذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس والترك فخالطوهم وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلاحين والسبي الذين اتخذوهم خولا ودايات وأظآرا ومراضع ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر ويخالف أيضا بعضها بعضا كما نذكره وكأنها لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم والله يخلق ما يشاء ويقدر٢.


١ الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة ١٣٩٤-١٣٩٥.
٢ آخر كلام ابن خلدون.

<<  <   >  >>