اعلم: أن مباحث العلوم إنما هي في المعاني الذهنية والخيالية من بين العلوم الشرعية التي أكثرها مباحث الألفاظ وموادها وبين العلوم العقلية وهي في الذهن واللغات: إنما هي ترجمان عما في الضمائر من المعاني ولا بد في افتتاحها من ألفاظها بمعرفة دلالتها اللفظية والخطية عليها وإذا كانت الملكة في الدلالة راسخة بحيث تتبادر المعاني إلى الذهن من الألفاظ زال الحجاب بين المعاني والفهم ولم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث.
هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخط بالنسبة إلى كل لغة ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها ودرست علوم الأولين بنبوتها وكتابها صيروا علومهم الشرعية صناعة بعد أن كانت نقلا فحدثت فيها الملكات وتشوقوا إلى علوم الأمم فنقولها بالترجمة إلى علومهم وبقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسيا منسيا وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية والخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن لدروسها وذهاب العناية بها وقد ثبت أن اللغة: ملكة في اللسان والخط: صناعة ملكتها في اليد فإذا تقدمت اللسان ملكة العجمة صار مقصرا في اللغة العربية لأن الملكة إذا تقدمت في صناعة أخرى١ - إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة - لم تستحكم كما في أصاغر أبناء العجم.
وكذا شأن من سبق له أن تعلم الخط الأعجمي قبل العربي ولذلك ترى بعض علماء الأعجام في دروسهم يعدلون عن نقل المعمى من الكتب إلى قراءتها ظاهرا يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب وصاحب الملكة في العبارة والخط مستغن عن ذلك.
١ في هامش الأصل: "لا يعقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة".