قال أرباب النظر: الأفضل: طريق النظر لأن طريق التصفية صعب والواصل قليل على أنه قد يفسد المزاج ويختلط العقل في أثناء المجاهدة.
وقال أهل التصفية: العلوم الحاصلة بالنظر لا تصفو عن شوب الوهم ومخالطة الخيال غالبا ولهذا كثيرا ما يقيسون الغائب على الشاهد فيضلون وأيضا لا يتخلصون في المناظرة عن اتباع الهوى بخلاف التصوف فإنه تصفية للروح وتطهير للقلب عن الوهم والخيال فلا يبقي إلا الانتظار للفيض من العلوم الإلهية وأما صعوبة المسلك وبعده فلا يقدح في صحة العلم مع أنه يسير على من يسره الله - سبحانه وتعالى - عليه وأما اختلال المزاج فإن وقع فيقبل العلاج ومثلوا بطائفتين تنازعتا في المباهاة والافتخار بصنعة النقش والتصوير حتى أدى الافتخار إلى الاختبار فعين لكل منهما جدار بينهما حجاب فتكلف أحدهما في صنعته واشتغل الآخر بالتصقيل فلما ارتفع الحجاب ظهر تلألؤ الجدار مع جميع نقوش المقابل وقالوا: هذه أمثال العلوم النظرية والكشفية فالأول: يحصل من طريق الحواس بالكد والعناء والثاني: يحصل من اللوح المحفوظ والملأ الأعلى.
واعترض عليهم: بأنا لا نسلم مطلق الحصول لأن كل علم مسائله كثيرة وحصولها عبارة عن الملكة الراسخة فيه وهي لا تتم إلا بالتعلم والتدرب؟ - كما سبق -
ولعل المكاشف لا يدعي حصول العلوم النظرية بطريق الكشف لأنه لا يصدق إلا أن يقول بحصول الغاية والغرض منها.
المحاكمة بين الفريقين
وقد يقال: إنه قد سبق أن العلوم مع كثرتها منحصرة فيما يتعلق بالأعيان وهو العلوم الحقيقية وتسمى: حكمية إن جرى الباحث على مقتضى عقله وشرعية: إن بحث على قانون الإسلام وفيما يتعلق بالأذهان والعبارة وهي: العلوم الآلية المعنوية كالمنطق ونحوه وفيما يتعلق بالعبارة والكتابة وهي: العلوم الآلية اللفظية أو الخطية وتسمى: بالعربية ثم إن ما عدا الأول من الأقسام الأربعة لا سبيل إلى تحصيلها إلا الكسب بالنظر أما الأول: فقد يحصل بالتصفية أيضا.
ثم إن الناس منهم: الشيوخ البالغون إلى عشر الستين: فاللائق بشأنهم طريق التصفية والانتظار لما منحه الله - سبحانه وتعالى - من المعارف إذ الوقت لا يساعد في حقهم تقديم طريق النظر
ومنهم: الشبان الأغبياء: فحكمهم حكم الشيوخ ومنهم: الشبان الأذكياء المستعدون لفهم الحقائق: فلا يخلو إما أن لا يرشدهم ماهر في العلوم النظرية فعليهم ما على الشيوخ وإما أن يساعدهم التقدير في وجود عالم ماهر مع أنه أعز من الكبريت الأحمر فعليه تقديم طريقة النظر ثم الإقبال بشراشره إلى قرع باب الملكوت ليكون فائزا بنعمة باقية لا تفنى أبدا.