اعلم: أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط بل هو موجود في كل لغة سواء كانت عربية أو عجمية وقد كان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك وذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق أوميروس الشاعر وأثنى عليه وكان في حمير أيضا شعراء متقدمون ولما فسد لسان مضر ولغتهم دونت مقاييسها وقوانين إعرابها وفسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها ومازجها من العجمة فكانت لجيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة وفي كثير من الموضوعات اللغوية وبناء الكلمات وكذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في: الإعراب وأكثر الأوضاع والتصاريف وخالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد واختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق فلأهل المشرق وأمصاره لغة غير لغة أهل المغرب وأمصاره وتخالفهما أيضا لغة أهل الأندلس وأمصاره.
ثم لما كان الشعر موجودا بالطبع في أهل كل لسان لأن الموازين على نسبة واحدة في أعداد المتحركات والسواكن وتقابلها موجودة في طباع البشر فلم يهجر الشعر بفقدان لغة واحدة وهي لغة مضر الذين كانوا فحوله وفرسان ميدانه حسبما اشتهر بين أهل الخليقة بل كل جيل وأهل كل لغة من العرب المستعجمين والحضر أهل الأمصار يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله ووصف بنائه على مهيع كلامهم.
فأما العرب: أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون ويتأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأغراضه من: النسيب والمدح والرثاء والهجاء ويستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام.
١ ذكر ابن خلدون هذا الفصل في مقدمته صفحة ١٤٣٤ تحت عنوان: "فصل في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد".